الجمعة، 20 ديسمبر 2013

مات الجَسَد وبقيَ الكلام/حرية عبد السلام



(شعر)
مات الجَسَد وبقيَ الكلام


حرية عبد السلام

تذكر أنكَ أعْلنْت الصمْت  
   وأعلنتَ معَه اِعْصَاري
وتصورأنك اِقتربتَ مِن المَوت
واِقتربت معه ساعة اِحتضاري
مسَحتَ كل الذكريَات
وعلقْتَ على حَائطِ الخَريف أننِي
بِملح الصبْر سَوفَ أنسَاك
وأن قهْوتِي ستكُونُ من دُمُوعِ المطر
وحَليبِي سأمْتصهُ مِن تَديك
لكن..حينَمَا تتذكر..
 ستَجدُني أغْسِل مَلابسِي بِزَبد البَحر
وأخْفي مَا تَبقى مِن غَسيلي بَين أوراقِ القدر
ستَعرفُ كَم أهواكَ.. والموج العاتي يَهواني أكثَر
لاَ تنْزعِج ..فصَمتُك كَبلَنِي وأطْلق عَلي اِسماً بعيداً
عن كُل ألوَانِ البَشَر
نَعَتنِي بالجُنُون، والجُنونُ فِي مَوتِك أرْحَم
وهَمَس فِي أذُنِي بِالهَذيَانِ، لكِنهُ فِي مِثل حَالاَتي
أهْونُ عَلى قلبٍ،  ذَاق نَخْبَ السأم
تَذكر يَومَ زَرعْت الغَاماً فِي صَدْري
وألْقيْتَ بِي ، فِي عَوْسَجٍ بَري
وتَذكر حِينَما دَفنْتَ قُرُنفُلةَ عُمْري
وخَلعْت ثَوبَ عُرسِي ،
وألبَسْتنِي الرغَام
لا تَستَغرِب ..
فَرائِحَة لحْم الظلاَمِ ،هاضَت عَظْمي
 وشَيَّعَتْني حُثةً هَامِدةً ...
وقَبْل دَفْنِي ، كُتِبَ علَى قبْري ..
مَات الجَسَد وبقي الكلام

رؤيا (شعر)/بقلم الشاعر عيسى حموتي

رؤيا (شعر)



أفتني فيها إذا كنت بالرؤيا تؤمن 
رأيتني 
حائرا في اعتدالي 
بين الرجاء واليأس
عودت نفسي
على قطف اللحظات 
من براثن النحس
أحيلها حدائقَ أنس.

في وثير الأزياء ،
رفل قاطفو الأمل من الغيب
سادوا الربع عراة الضمير
اعتمروا القمع مرصعا بالذنب
خفّظوا من نسبة الإنسانية 
صلبوا العقل على هيكل القلب
في سلطنة الموت المحاط بالجحيم
واستلاب الشيطان ارادة العقل
نادوا باستقالة الحب

جاء في تفسير المنام:
الإيمان بغير الجمال 
في ملكوت النوم شرك 
و الشرك يبقى
خارج شرنقة الأحـــــلام.

ونظرة الحبيب مساحيقُ
تنثر وردا على صفحة الخد 
تنثر خجلا، زان أعمدة الرمش.

أما استقالة الحب
فهي حوضَ يأسٍ
تَحَرّشت بقطرة الأمل
وحرفٍ يمتح من لهث النبض 
لينقشه في الخافق 
تمثالا ارتوى من حان الحَزن.

ترنح سكرا
يبحث عن صورة الغلاف
لون فرعها عطر ،
صيغ من سواد النـــــــــــور، 
رافلا في غلالة من أرق.

وقطف اللحظات من الدهور
تمردٌ في الحب 
بقوة الفعل لا الأقاويل
قصيدة نثر حديثة
قفزت تكفر بجدران الخليل
ومن الحرية الخضراء خط
سبل الحب نهجا من مواويل
من أشواك الدهر 
يستل هناء ،يرصع القلب بالأكاليل
على جناح حلم وثير 
حلق القلب عاريا ،لا يرضى منزلا
غير مقام الطرف الكحيل .

يغدو الهوى جوهرا و دُرّا،
له الجفنــان محارْ ،
والرموش جيش
رابطَ فوق أسوار الجفون 
ساهرا يحمي احورارْ،
يرتدي الكحلَ لباسا
من سواد اللون خاط النهارْ
يرفع الكحل لواءً 
حافظا للشمس كل ابهرارْ.

"عُمْقٌ"/قصة قصيرة جدا بقلم محمد مباركي


"عُمْقٌ"






قصة قصيرة جدا بقلم محمد مباركي / وجدة / المغرب



عيّنت الوزارة معلّما شابا في قرية معلّقة بين سلسلتين جبليتين. دخل قسما وحيدا تزاحم على مقاعده كل أبناء القرية. وزّعهم حسب مستوياتهم من المستوى الأول إلى المستوى السّادس.
سأل المعلّم تلامذته يوما في حصّة الفنون:
- أي الألوان أحبّ إليكم.
أجابوه إجابة جماعية:
- لون الخبز ولون الشاي.
أخذ ريشتهم ومزج بين اللّونين، ورسم لوحة تشكيلية عنونها ب:
"المغرب العميق".

روايــة أوراق الرماد تـــولد الرمـــاد عن الطفولة المــحترقة/إدريس يزيدي

روايــة أوراق الرماد

تـــولد الرمـــاد عن الطفولة المــحترقة



إدريس يزيدي: شاعر مغربي مقيم في بلجيكا
Drisss.yazidii@gmail.com
"الرواية تاريخ متوقع" هذا هو التعريف الذي يقترحه أندريه جيد للرواية، لكن كيف تكتب ذلك التاريخ بمشاعر اللحظة المساوقة له حتى يتم نقل حيثياته بنفس الفوضى والقلق فلا تهدأ مع تراخي الأيام، هو ما تحاول رواية " أوراق الرماد " الصادرة عن شركة مطابع الأنوار المغاربية للروائي محمد العتروس أن تنجزه على مدار سبع ورقات تقاسمها المتن.

وأنت تخطو خطواتك الأولى لتلج إلى متن الرواية يلفت انتباهك الضمير الأدبي الذي يتقمص روح حرباء، وهي الإشكالية ـ إشكالية الضمير في الكتابة الروائية ـ التي تناولتها أقلام النقاد على نطاق واسع. فهو في البداية يغوص في السرد تحت مظلة ضمير الغائب "فيستيقظ طفل مشاكس في الغرفة ....يتثاءب ....يمدّ .... يحك .... ثم ينسحب في هدوء" ص7، بنفس ذلك الهدوء ما يفتأ فيحرف السرد إلى ضمير المتكلم الذي استطاع من خلاله أن يبث مكنونات التجربة فيجعلها تطفو فوق السطح " أنا كنتُ ذلك الطفل .... أتذكر ـ مازلت ـ قبلتها على جبيني" ص8، بهذه الطريقة يوكل ضمير الغائب لكل من شاركوه لعبة الحياة، يهيم يشرح تفاصيلها، نكباتها، عثراتها، إخفاقاتها المتتالية، حتى لكأنه تعب من كل هذه الشروخات التي أصابت نفسه ولم تُبق منه شيئا، عاد في الورقة السابعة والأخيرة ليفر من نفسه، يريد أن يقول: هو لم يكن هو. ولكي يوهم نفسه أولا ويقنع القارئ تاليا، يحرف الضمير الأدبي مرة ثانية من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب، يستهل الورقة قائلا " حزينة كانت أمكَ حين خرجتَ أنتَ من غرفتك ذاك الصباح" ص97.

هذه الورقة السابعة التي أنكر في حياضها أناه ، سبقتها ورقات تمخضت عنها هذه الحال، فكما أن هذه الورقة كانت معنونة باسم علي، كانت الورقات الأخرى باسم عباس الحماس وعمي بوطيب الحجام وأحلام ودنو وسامي لالماني ولكانوخ، مما يجعلنا نجزم أن توزيع هذه الورقات استدعى إسقاط المتن على معادلة عسيرة، ففي الورقة الأولى يسرد جملةً من أصدقائه الذين قاسموه جرائم الطفولة ليأتي تاليا ويمنح كل واحد منهم ورقة تشهد على جريمته. وفي كل ورقة يظلون رفقته في درب الطيش والطفولة "المقدسة"، بل شركاؤه في معالجة طفولة قاسية ظلت آثارها عالقة بشخصياتها حتى بعد أن تجاوزوا سن الصغر، فكان ذلك واضحا على مستوى العبارات والألفاظ المتداولة على مدار النص، فحينا يصف مراوغة الطفولة بالخبث " ثم أضيف في خبث واضح" ص9، وحينا يصف مشاكسة بريئة بالجريمة النكراء " خبأت بيضتي ...سأعترف لها بجريمتي النكراء"ص10، وحينا آخر ينعت حركات طفولية فيقول " تدليت كقرد مشاكس"ص11، ثم يرسم صورة لصديقه النزق قائلا" لأن عباسا كان يحمسنا على الأعمال الشريرة القذرة" ص12. وحتى بعد أن تراخى الزمان وتباعد المكان والتقى الراوي " أحمد" بصديقه الكانوخ في باريس لمعاقرة الخمر، هاجر معهم قاموسهم اللغوي لنسمع الكانوخ يداعب أحمدا فيقول " اسمع وصايةْ المجرب يا واحدْ المعفانْ" ص89 . ولا ضير أن نجد في ثنايا هذه البيئة التي أنتجت مثل هؤلاء الأطفال مفارقة عجيبة تستفز الإنتباه، فعلاقة أحمد/الراوي بأمه يلفها الوئام والحنان، حتى لأنني لم أومن بهذه الوشيجة السَمحة في الصفحات الأولى ورُحْتُ أضرب في الصفحات الموالية علِّي أجد ما يعكر صفو هذه العلاقة، والداعي إلى ذلك هو أنها تقول له عندما ارتطم بالسلم وتحطمت البيضة " الكلب ما يأكلها حتى يْمرمدها"ص11، هنا نكتشف أن قسوة الألفاظ هذه لم تكن نتاج مشاعر حانقة، بل هي حصيلة البيئة التي تستمرئ مثل هذه التعابير ولا تجد أدنى حرج في تداولها حتى صارت من جملة العادات الكلامية وبدا ظلها واضحا وارفا على وجه الرواية فلم تشرإب بعض العبارات الشاعرية إلا على استحياء" ميتة كانت نجمتي" ص60 " وذات فضيحة" ص49 "هل نملك أن نصبح بشرا"ص94 وتتضح هذه الشاعرية الحيية في ذروتها ـ من حيث مضمونها لا شكلها ـ حين يأتي الجناس التام بين إسماعيل الملك الذي صورته مقررات التاريخ بطلا وما هو إلا صانع وهم في عقول الناس، وبين إسماعيل النبي الذي وافق أن يكون ذبيح أبيه فداء لأمر الرب سبحانه " أنا لست مستعدا لأن أكون الأضحية التي بموتها تغفر كل ذنوب الكون. لست مستعدا لأن أكون إسماعيل جديدا" ص61
 

وفي غمرة هذا النص الذي نجح في أن يؤدي فروض الولاء لقواعد الكتابة الروائية، ظلت المقاربة بين المحلية والعالمية تضج كلما كلما حاول النصُّ أن يرسم صورة واضحة ـ إلى حد بعيدـ وعميقة ـ إلى حد ماـ لكل الخلفيات التي صنعت شخوص الحبكة السردية، وذلك ابتداء من الحمّاس قاتل القطط إلى أغاني مرسيل خليفة وقعبور وناس الغيوان مرورا بأستاذ التاريخ الذي يراه مزيفا وملفقا. وكذلك من باب اتخاذ المحلية مدخلا إلى العالمية ظل الكاتب يُضَمِّنُ نَصَّهُ جملةً من المفردات التي قد لا يفهمها الساكن في المدينة المجاورة بَلْهَ البعيد النائي، وذلك تارة في جرد منه لأسماء بعض الألعاب التي كانت تسلي طفولتهم المرتبكة" نلعب الورق أو "الزْلاقوفْ" أو "سَبْعْ حْجيراتْ" أو "كَامَا" أو "صوطْ موتُو" أو "الدَّنْكْ" أو غيرها من الألعاب" ص68 وتارة أخرى يوغل في المحلية أكثر فيرسم خريطة جغرافية للمدينة المنهكة المتعوبة بطريقة لا تتأتى إلا لمن عاش تفاصيلها " وانحرفت يمينا حتى وصلت إلى محطة البنزين "جَعْرَة" وانحرفت يمينا حتى وصلت "الطحطاحة" وهناك دخلت في الأزقة الضيقة لـ"لكَرابا"، مررت على مدرسة السّي البوخاري واتجهت يسارا وفي زنقة المدينة المنورة ركضت نحو البيت كالسهم"ص39 /40.

ننتهي من الرواية وقد فهمنا ـ إن صحّ فهمنا ـ أن أحياءنا التي صنعتها أيدي النظام البوليسي ـ  الذي لم يَخْلُ النص من كشف الكثير من مهاتراته ـ مازالت تحتاج إلى من يسدل الستار عنها حتى تطل علينا بشاعة الشخوص التي أنتجتها،وكم كان الباب مشرعا ـ لو اقتحمه الراوي ـ لسبر أغوار تلك النفوس وكشف خفاياها ودوافع طيشها الذي حرفها عن طفولتها، لاسيما عباس الحمّاس قاتل القطط وآكل الجيف وكل الشخوص التي كانت تستمرئ صنيعه. وهي ـ أي هذه الشخوص ـ كانت بخلاف أحمد/الراوي الذي كان حظه وفيرا إذ عثر على حضيرة للأبقار تركها المستعمر ليتمدرس فيها، أما ألائك الذين لم تتنازل لهم الأبقار عن مكانها فهم كثر. وهذا ما حاول أحمد/الراوي أن يؤكده لنا ويؤكده لنفسه قبلنا في الصفحات الأولى " لكنني مع كل هذا لم أكن الأسوأ بين أقراني في الحي ... حتما لم أكن الأسوأ" ص11، وستشهد الصفحات أنه لم يكن الأسوأ بين أقرانه، خاصة ذلك القرين الوسيم الهادئ الوديع "سامي لالماني" الذي لم ترحمه هذه البيئة العنيفة وجنتْ عليه براءته إذ أسلمته إلى أحد الوحوش حتى يغتصبه، ولذلك يخصه بالذكر فيقول " ولا كان حظي أسوأ من حظ سامي لالماني.." ص16. لكن مثل هذه البيئة لا تكتمل بشاعتها إلا إذا خلعت على البراءة أسمالها وألبستها روح الوحشية، وقد استمر ذلك زهاء عشرة أعوام وسامي لالماني يتربص بغريمه " وفي أول فرصة انقض عليه كالأسد الجائع، نهش لحمه ونكل بجثته ثم قطع قضيبه ورماه للكلاب"ص44... الآن، مرحبا بك يا سامي في حينا.

لم تخالط قتامة هذا النص العنيف ـ باعتبار صدقه وجرأته في وصف مشاهد الحي ـ إلا ريح باريسية، إذ ظل النص ينضح بإشارات تضفي عليه نكهة الرواية المهجرية، إلا أنه ما يلبث أن يحجم عن الإسترسال في نفس السياق الإغترابي ويعود إلى تيمته المحورية، وهي التيمة التي تأخذ برأس القارئ تجره إلى عقر ذلك الحي التَّعِبِ المنهك السادر في بوهيميته الحديثة.



/الْمَعْـدن/محمد الزهراوي أبو نوفل


الْمَعْـدن


محمد الزهراوي أبو نوفل
أُحَدِّق في شَجَنٍ 
وَأمُدّ أصابِعي .. 
تِلْكَ تُيوسُ الْماءِ 
تتَقَدّمُ إلَـيَّ 
لَـها وهَجُ التّحَوُّلِ.. 
لـها غَضَبٌ 
يُهَرْوِلُ في برْدِ 
ناري سَعيراً.. 
تَمُدُّ جِسْراً أو 
تشُقّ القناة ! 
غَنّوا حُفاةَ 
السُّفوحِ لِعَرَباتـي .. 
بـي شَبَقٌ لأُضاجِعَ 
أخْضَرَكِ النّهارِيَ 
فـي الْحُلـمِ وَحافِزٌ 
مِنْ فُحولَة. 
وَلَوْ أنّـِيَ 
مُثْخَنٌ والْجُسورُ 
ضِدّي.. 
يَحُثّنـي الْهَديرُ ! 
ويُرَفْرِفُ 
الجناحُ كيْ يفْقِسَ 
بيْضُكِ الّذي
هُوَ الغِوايَةُ والحُب
ظِلٌّ مَديدٌ أحَدّ
ثُ
الأهْلَ عَنْ سِيرَتِهِ..
لا شَيْء سِواه.
بَياضٌ في حُقولـي
وَغَمامٌ يُسَيْطِرُ..
هُوَ الهدْمُ ..
ولِمَعْدنِهِ فـي أرقـي
سطْوَةُ الْعُذوبَة.
لا مَطَرٌ إنْ
لَمْ يُشْفَ قرْحُكِ
أنـا ألْهَثُ ..
لأقْرَأَ صَحائِفَكِ
عَن الآتـي كَوابِلٍ
عَلى هَيْئَةِ طَيْر
أحْلُمُ بِإعْصارٍ
لأِلْقاكِ بِاليَنابيعِ
والرّقصِ والْموسيقى.
كُفَّ ياحَديدُ زُرودَكَ
عنَ خِراف الْحِبْرِ
إذْ مِن الْهَوْلِ
صَدأُ الْحَديد.ِ
وأنتَ يا نُحاسُ
يَجْرُفُنـي مِلْحُكَ.
كُنْ شُجونـي يوْمَ
الْعيدِ إذْ يَرِدُ.
أنا انْعِكاسُكَ
الْجِنْسي إيقاعُ
طبَقاتِكَ الْعُلْيا..
الْمَجْنون
الذي رَأى
فَطاوِعْني
لأَتَباها بِنُقوشِكَ
في سُطوعِها
الْمَحْبوب
م . الزهراوي

جنازة الأدب/بقلم عمر بنعمر

جنازة الأدب

المرحوم محمد حسين بهنس
 بقلم /عمر بنعمر
بالأمس البعيد، مات شاعر فرنسا العظيم " لا مارتين" وحيداً مفلساً بسبب سخائه و كرمه المفرط... لم يبق بجانبه
 سوى كلبه الوفي... بالأمس البعيد، مات كذلك فخر روسيا " تولستوي" في محطة قطار منسية... في محطة لم يعد القطار يتوقف فيها...
و بالأمس القريب، عندما كنا نطفئ شمعة عيد ميلاد الأدب العربي في منازلنا أمام المدفئة، و عندما كنا نتقاسم قطع الكعكة المحشوة بالشوكولاه الافتراضية و نتبادل التهاني الافتراضية، كان أحد أبناء الأدب العربي البررة يسلم الروح لخالقه تحت وطأة الجليد... فمات برداً...

"محمد حسين بهنس" لم يمت في صحراء منقطعة فنوكل أمره إلى قضاء الله و قدره، بل مات على رصيف الشارع العريض بين سمع الناس و بصرهم، في قلب قاهرة المعز التي لا تنام... و لابد أنه مر قبل موته من منازل بعض الأصدقاء ليطرق أبوابهم... لكن الأبواب الخشبية كلها كانت تجيبه " لا تكثر الدق يا هذا... لم يعد أحد هنا... الكل خرجوا باكراً هذا الصباح و لم ينسوا كعادتهم أن يغلقوا الأبواب خلفهم و النوافذ... أداروا القفل الثقيل مرتين ثم رموه في البحر الميت..."

آه... كم تنقصك من الروح أيتها البلاد المؤذية لتصيري بلاداً بلا منازع و بلا أقنعة، بلاداً كبقية البلدان، تحب ناسها وتكرم أحبتها من حين لآخر حتى لا تنساهم ولا ينسونها...

اشتهر "محمد حسين بهنس" بروايته " راحيل" التي تحكي لنا قصة شاب يشتغل في استديو للتصوير، فيغرم بفتاة فقيرة و جميلة تدعى"راحيل" تعرف عليها عندما قصدت الاستديو لتأخذ بعض الصور من أجل إنجاز جواز السفر قبل الالتحاق بعريس خليجي.

يصف لنا "بهنس" الفتاة و هي جالست أمام عدسة الكاميرة فيقول " كانت هاجرة حلوب، تحلب العرق... تحلب الذاكرة بمواقيت... كانت هنالك 42 قطيرة عرق تقريباً تجلس على عرش جبينها الوضي وأربعة قطيرات أصغر على أرنبة أنفها... و الذي أعجبني حقاً فى قطيرات العرق تلك هو أنها كانت تتلألأ عاكسة رونق النهار غير آبهة بزمجرة أجهزة التكييف التى تتوعدها بين الفينة والاخرى بالتبخير... حينما بهرني وجه "راحيل" ، لولهت آفاق الزمان بعد جدب، و اختلطت النار والريح والتراب والماء في مزاج ضاري... المريض رجع الى صحته، و السكران من سكره صحا، والمجنون ثاب إليه عقله، و النائم من نومه استيقظ، و الغافل من غفلته انتبه..."

كان دائم الحديث عن العرق و حرارة الشمس... فمات برداً...

فأين الغيورين على الأدب و الأدباء من هذا كله؟؟؟

وعلامَ يجتمعون في صالوناتهم الأدبية التافهة، التي هي أشبه بمواخير الدعارة الثقافية، حيث يَجْترُّون القصص البائسة التي لا نهاية لها، و يضاجعون الشعر الرديء الواحد تلو الآخر، و يمارسون اللواط الفكري بإيديولوجياتهم الكاتمة للصوت؟

لا تلوموا بعد اليوم هذا الجيل الناشئ إن هو لم يقرأ و لم يكتب، و انجرف وراء ألعاب الفيديو، و بايع البارصا أو الريال، و أنكر عليكم شعركم الجاهلي و اتهمكم بالتخلف، و ذابت ثقافته داخل سراويل الجينز الممزقة وأكياس الشيبس.

لا تتباكوا بعد اليوم على حال الثقافة و أنتم الذين خذلتموها و اثَّاقَلْتُم إلى الأرض، و رَضيتم أن تكونوا مع الخوالف. فالثقافة قِدِّيسَةٌ و وَلِيَّةٌ من أولياء الله، نُكْرِمُها و نَتَقَرَّبُ إليها بما تجود به أقلام المبدعين، و ليست حائط مبكى لا يضُّر و لا ينفع.

مات هذا الشاعر متجمداً من الحسرة، بعد أن انسحب من الدنيا مثلما يفعل الساموراي عادة عندما يخسر حروبه المقدسة، فاعتزل الناس في معبده المظلم، ثم غرز سيفه الحاد في بطنه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين... فهيهات لنا نُبْلُ السَّاموراي و شجاعته و نحن أمواتٌ عند ربهم يرزقون.

رحمك الله أيها الأد
ب

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م