الثلاثاء، 19 فبراير 2013

من رسائل "مخطوط أُكتو": قراءة في نصوص أُضمومة: "مخطوط أُكتو" للشاعر سعيد هادف الجزء الثاني



من رسائل "مخطوط أُكتو":
قراءة في نصوص أُضمومة: "مخطوط أُكتو" للشاعر سعيد هادف
الجزء الثاني

 
 انجاز رشيد سوسان
رابعاً: رسائل رومانسية
إن رومانسية "مخطوط أكتو" من نوع خاص، فهي رومانسية تكاد تكون معطّلةً، أو موقوفةَ التّنفيذ؛ ذلك بأن عناصر الطبيعة امتزجت مع الشاعر، ودخلت معه في حوار، لكنها ما أَنصَفتْه، إذ إنها كانت تضيّق عليه حُلمَه، وتقيّده بأجوبة غيرِ محتملة، وهو ما قتل في الشاعر سعيد هادف روح الإحساس بنشوة الحياة وانهمارها، فولّى منكسراً وخائباً. يقول الشاعر في قصيدة "النهار الطريد":
"وقفتُ على حافة النهر
أعَدْتُ لزيتونة ظلّها
ومددْتُ يدي لغمام بعيد
قال لي الماء: لنْ أنهمر
فانكسرت."[1]
      وناجى سعيد هادف بإصرارٍ عناصرَ أخرى طبيعية مُقدِّماً لها أغلى ما يملكُ (سمسم قلبه)، فكان مصيره أن تحلزنت الطرقات أمامه، وضاعت منه بَوصلة الطريق. قال الشاعر:
بكت في أيكة الانتباه الحمائم
نثرتُ لها سمسم قلبي فانتشى العوسج
عرّش ملء المكان
احتميتُ بأشواكه
وخلف النهار الطّريد
ركضت بساقين ناحلتين
تحلزنت الطرقاتُ أمامي."[2]

خامساً: رسائل وطنية
الوطن جريح في دواوين "مخطوط أكتو" الثلاثة، وهو منهكُ القُوى نتيجة ما دُبِّر له من مكائد، بل هو رازح في تابوت الإرهاب الممنهج الذي أتى على الأخضر واليابس، ولكنه لم يُثنِ الشاعر عن قول الحقيقة ورفع صوته مرسِلاً رسالةً حزينة إلى الوطن:
          "للوطن النائم في تابوت
          للفرح النازح منّي إلى مدن الياقوت
          للمسكونين بمنفى الكلمات
          للموشومين بالأسئلة الرّعناء
          ... أرفعُ هذا الصوت."[3]
      وممّا يؤكّد جرح الوطن أيضاً، بل يؤكد قتله كذلك، هذا البوحُ الصادم للنفس والعقل والوجدان في قصيدة "بوح":
          "على دفترها المدرسي
          رسمت قلباً مجروح
          وتحته كَتبت:
          آه... يا وطناً... يُقتل فينا حتى البوحْ."[4]
      ومن الرسائل الوطنية غير السّويّة في الديوان، رسالةٌ حرّى أرّقت الشاعر وما زالت تؤرّقه، إنها رسالة (البطش بالوطن)، وما أقسى البطش بالوطن، وبخاصة حين يكون هذا البطش في أبشع الصور وأعنف المشاهد... يقول سعيد هادف في قصيدة "جدارية لمساء ماطر":
"لماذا الذين تجمّعوا ضد الذين هم- الآن-
مثل الذين مَضوْا فوق أجسادنا؟!
(... )
لماذا إذاً أطلقوا النار على المِزهريّة؟!"[5]
      وهل هناك صورة أبشع من اغتيال الوطن نهاراً، ومن إطلاق النار على مزهرية؟
 كما أن هذا البطش بالوطن كان سريعاً، وتمّ على عجل. أهكذا يُفعل بالوطن؟ يقول الشاعر وقد ضاقت عليه العبارات ولم تُسعفه... ولكنّ صورة البطش التي رسمها كانت واضحة ومؤثرة:
"على عجلٍ رفعوا اللافتات...
في الحقيقة/ طبعاً/ بما أنّ/ لاسيما/ على
أيّ/ كذا/ كما أنّ/ لكن
كلّ ذلك كان على عجل."[6]
      وتبعاً لهذا البطش السريع بالوطن، ظهرت النتيجة الحتمية البشعة والمتمثّلة في عدم تقدير قيمة الوطن، إذ إن أسياده جعلوا منه أرضيةً تُروى بالدّموع، وحوّلوه إلى مسرح للدماء كما يقول الشاعر:
"وطن حينما شبّ عن طوقه
كسّر الطّوق ثم انبرى في انكساراته،
أَدْمُعاً ودماً..."[7]
وازداد وضع الوطن تأزماً إلى درجة أنه صار يبكي جثّته الهامدةَ حِداداً:
"وطن يقف القرفصاء
يمتصّ حلماً هزيلاً
(... )
يتأبّط جثته ويغنّي حداداً عليها
على شاشة من هباء
يزخرفُ أقواله
وما يقوله صُبحاً... يردّده في المساء."[8]

سادساً: رسائل مغاربية
  يعجز اللّسان عن البيان، حين يتعلّق الأمر بالحديث عن واحدٍ، وقلبُهُ نصفان! فيُسارع الإنسان إلى أن يصارع بحثاً عن حياة يمتزج فيها التراب بالشجر، ويتواشج فيها الهواء بالبشر:
          "هنا بين بين
          نصارع كيما نكون
          وكيما تكون الحياة
          كما ينبغي أن تكون
          موصولة بالتراب
          موصولة بالهواء
          موصولة بالشجر
          موصولة بالبشر."[9]
      ولكن، أنّى لهذا الشعب الواحد أن يعيش؟ وقد تفرّق بالحدود إلى شعبيْن. وكيف يستطيع هذا المغرب الواحد أن يحيا؟ وقد صار بسلطة الحدود مَغربيْن. يقول سعيد هادف، رهين المحبسيْن:
          "والحدودُ على حالها لا تُجيب
          سوى طللٍ في المكان
          اسمه "زوج بغال"
          (... )
          فماذ تقولان ماذا...؟! أيها المغربان!"[10]
      هكذا عصفت الحدود بحلم شعب واحد، يتقاسم أفرادُه وعائلاته الهواء والتراب والشجر، وهكذا قطعتْ "زوج بغال"[11] القلب الواحد إلى نصفيْن. وما أصدق قول الشاعر سعيد عبيد:
يا حُـدودَ الوهـم حِيـدي  = = =  ما لنـا في الحـبّ قلبـان
كمْ جَـرت فيـنـا دمـاءٌ  = = =  بـوريـدٍ وبشِــرْيــان
ونشيـدُ النّـبـض فيهـا  = = =   لحنُـه للـحـبّ أَلْحــان
انصـهـرنا فـي كيـانٍ  = = =  واتَّحـدنـا منـذ أزمــان
يـا وجـودُ اشهـدْ فإنّـا  = = =  واحـدٌ، والقـلـبُ نصفـان[12]
      لكن الشاعر سعيد هادف غرد كطائر طليق وهو يبثّ رسالةَ أملٍ ربيعيّ مِلؤُه العصافيرُ والرقصُ وفرحةُ العائلة الواحدة. يقول:
          "سيأتي الربيع تماماً كما نشتهي
          عصافير... عصافير
          ورقصة حيدوس
          وعائلة فرحتها واحدة."[13]

سابعاً: رسائل قوميّة عربيّة
رسائل "مخطوط أُكتو" القومية والعربيّة كثيرة جدّاً، ومنها إشارات الشاعر إلى قضايا عربية مختلفة من مثل الانتكاسة العربية المذلة، وقضية بغداد، ولعبة القمم العربية، وقضية سلطة الحزب الواحد، وغياب التعدّديّة الحقيقية، وعدم الاستفادة من التاريخ العربي والإسلامي... وفي طليعة هذه الرسائل القوميّة حديث الشاعر سعيد هادف عن القضية الفلسطينية، وذلك في أكثر من موضع في الديوان؛ ذلك بأن فلسطين تسكن روح الشاعر، وتعيش بداخله، وترسم فاجعته كما يقول في قصيدة "مرثية لمدائن النفط":
          "وكانت (فلسطين) تركض في داخلي طفلة من
          أهازيج فاجعتي."[14]
      ويمكن اختزال رسائل "مخطوط أُكتو" الخاصة بفلسطين إلى ثلاث:
1- قضية القدس: القدس جرح غائر في خلد كل الشعراء، وهي بوحٌ ماطر لدى جميع الأدباء... وما مِن شاعر إلاّ ووضع للقدس مكانة عالية في سويْداء قلب شعره. وكيف لا؟ وهي تُقيم معه دائماً في جسده وخواطره وعواطفه. إن هذا الإحساس بعظيم مقام القدس هو الذي دفع شاعرنا المُحتفى به إلى استعارة لغة الحلاّج الموغلة في مقمام الحقيقة، الموصِلة إلى عين اليقين. ومتى ستُحرّر القدس إن لم يرتفع بها الناس والساسة والمثقفون والشعراء إلى مَركب الحقيقة واليقين. أليست القدس كيانَ الأمّة وقلبَها النابض؟ على الرغم من الهزائم العربية المتوالية. يقول الشاعر سعيد هادف في قصيدة "أرى عالماً يغرق":
          "وينداح ضوء الحقيقة في بهرجة القول
          فأصرخ: يا قدس "إن ركوب الحقيقة في الحقّ حقّ"
          أشدّ على ما تبقّى من الحلم،
          أشدّ و"قلبي على قسوة لا يرق"[15]
2- قضية السلام: خص سعيد هادف ذلك السلامَ المزعوم بحديث يفيضُ ألماً ويقطر حزناً، غير أنه استطاع، على الرغم من ذلك، أن يجعله حديثاً تهكّميّاً ينتصر فيه على كل وكالات الأخبار، وعلى جميع المؤتمرات، وعلى كل من حملوا الحمام واغتالوا السلام. يقول الشاعر في القصيدة السابقة:
          "كل الوكالات تهيّئ تربتها للكلام
          والذين أتوا حاملين الحمام...
          هل أتوا للسلام... !؟
          (... )
          إذاً... غداً سأقرأُ ما ستقول الصحافة
          أقرأ... على ما تزعُمون السّلام."[16]
3- قضية أطفال فلسطين: إنهم الفتية الأبابيل الذين سطّروا بسواعدهم قبساً من نور النصر، وحملوا وحدهم الغمامَ صامدين في مدار الشموس الحارقة، وثابتين وسط نيران الجحيم الصاعقة. بينما فَضّل غيرُهم زَرعَ الطعنات وقَطف اللعنات. وقد حظي أطفال فلسطين من الشاعر سعيد هادف باهتمام بالغ في مخطوطه، بلغ درجة تخصيصهم بإهداء قصيدة إليهم، هي قصيدة "أرى عالماً يغرق" وهي مسك ختام "مخطوط أكتو". يقول الشاعر فيها:
          "في مدار الشموس أرى فتية يحملون الغمام
          أرى من أشاعوا الجحيم على جسدي
          يقطفون الذي زرعوا...
                         لعنةً
                         لعنةً
          أرى عالما يغرق الآن في ناره
          إني أرى فتية وحدهم...
          وحدهم يحملون الغمام."[17]

ثامناً: رسائل تهكّميّة
ترسم هذه الرسائل صوراً رمزية ومشاهد كاريكاتورية تنقد الواقع السياسي المتأزم في الوطن، وبلغة لاذعة لادغة... قال صاحب المخطوط:
"أجل...
لقد رأيتُه
ينصّب الشيطانَ حاكما على المدينة المُسالمة
يزرع الأوهام والضياع
يهيء الطقس والألوان
يغير القناع حسب لعبة المكان
ويعلن في صلاته:
"فليسقط الشيطان"."[18]
      ومما يزيد هذه الصور الكاريكاتورية التهكّمية لذاعة جمعُها أحياناً كثيرة بين متناقضين لا يجتمعان كما يتضح في هذا المقطع:
"أجل
لقد رأيتُه
يهرّب المخدّرات تارة- وتارة
يرتّل القرآن."[19]
وهذا مثال آخر من الرسائل التهكمية في المجموعة الشعرية، وهو مثال يتهكّم فيه الشاعر من عبثية القمم العربية التي تُعقد بكثرة، ولكنها لا تقدم شيئاً للقضية الفلسطينية. يقول سعيد هادف مخاطباً القدس:
"دربكِ أعلى... وأعلى
والقمم التي يزعمون، كلها سفحُ
وحدكِ أنتِ التي تكتُبين... وغيركِ يمحو."[20]

تاسعاً: رسائل تنبُّئِيّة واستشرافية
توجد في "مخطوط أكتو" عدةُ أشكال من الرسائل التّنبّئيّة والاستشرافية، ومن أهمها ما يأتي:
1- طلب الحرية: ما أجمل أن يعيش الإنسان حرّاً طليقاً في جوّ تكتنفه الأوهام، وفي وطن تحرسه الهوام، وطلبُ الحرية مطلبٌ حاضر بقوة في قصائد سعيد هادف، ويؤثثها بصورة تجعل القارئَ يحس أكثرَ بقيمة الحرية الفردية حين تُفتقد فجراً، وبقدر الاستقرار الوطني حين يُغتال غَدراً. كل ذلك يقع بانتظام، ويُدبّر في النهار وفي الظلام، ونحن نعيش عصر التقدّم والتحضر والديمقراطية؟... ولعل هذه المفارقةَ الغريبة هي التي دفعت شاعر "المخطوط" إلى البحث فيما خطّه الشعراء الصعاليك في الجاهلية من دروس في الحريّة، يستوي فيها الضعفاء ضد الأسياد الأشقياء. يقول الشاعر:
          "ما الذي جعل الشّنفرى... ؟
          يعلن صعلكته
          ... جنونهُ
          ... حريته
          (... )
          والذي تأبط شرا
          تأبط عشقَ البراري.
          وكيف عروةُ قسّم جسمه كي يتوحّد فيهم
          ... كي يتوحّد صوت الضّعاف
          ويَخفُت صوتُ الضّواري."[21]
2- استشراف الأمل: تظلّ جذوة الأمل مشتعلةً لدى سعيد هادف على الرغم من القيود والضياع... واشتهاءُ الأحلام لديه لا حدود له وإنْ تَحلزنت الطرقات، وتحولت إلى متاهات لا مخرج من شرَكها:
"اشتهيتُ صباحاً صغيراً
طفلة تخبّئ في شَعْرها وردة يانعة
أو نجمة لامعة
اشتهيتُ احتفال الحقول
اشتهيتُ الكلام الذي لم تقله الوكالات."[22]
ويظل أمل الشاعر ممتدّا إلى الفجر، إلى هدمِ أسوار الزمن الساقط الذي صنعه الساقطون المُرجفون:
"كيف سأهدم أسواره حجراً... حجراً...
وأبْني زماني من الحب...؟
سأعثر – حتماً- على الخارطة."[23]
ويبلغ استشراف الأمل قمّتَه لدى الشاعر حين يتمنى القيامَ بتغيير العالم المظلم، ليُوقِد عودَ ثقاب، علّه يزرع بصيصاً من النور... ولكن، كيف السبيل إلى ذلك؟ يقول:
"أودّ لوْ أُطفئُ العالم من حولي
وأُوقِد عودَ ثقاب
ربّما تكون لحظةُ التّجلّي
ربّما لحظةُ الغياب."[24]

تلك كانت بعض رسائل هذا "المخطوط" الثمين، وما ذلك إلاّ قبس من أنوار الرسائل "المخطوطية الهادفيّة"[25]. على أن هناك رسائلَ أخرى يتلقاها القارئ الكريم بكل تأثر وألم، وحَسبُ هذه الدراسة الأوليّة ما قدّمتْهُ من النماذج الرساليّة المتنوّعة.
      لقد استقرّ رأيي، في ختام هذه الدراسة، على أن أُضمومة "مخطوط أُكتو" تعكس حقيقة عظمى يمكن اختزالها في أمنيةٍ صعبةِ التحقّق وهي: لَو كان لسعيد هادف القدرةُ الكافية على تغيير ما وقع من أحداث ووقائع إنسانية وتاريخية واجتماعية وسياسية، لفعلَ ذلك دونما تردّد، ولأَراح نفسه من ليلٍ ثقيل كثير الأوزار والعذابات، ليلٍ جثم على قلبه وفكره وقيّد من حركاته... ولأنه لا يستطيع تغيير ما وقع، قام بتصدير عذاباته تلك إلى القراء، ليتقاسموها معه، علّهم يُخفِّفون عنه شيئاً من وقعها الأليم. وإن شاعرنا سعيد هادف ليستحق من القراء أن يتفاعلوا معه بصدق، ويتقاسموا معه تلك الآهات والمكابدات، وهو ما أراه قد تمثّل في هذا اللّقاء الخاص بتوقيع "مخطوط أكتو


[1] - نفسه، ص: 21.
[2] - نفسه، ص: 21.
[3] - نفسه، ص: 11.
[4] - نفسه، ص: 14.
[5] - نفسه، ص: 25.
[6] - نفسه، ص: 28.
[7] - نفسه، ص: 99.
[8] - نفسه، ص: 92.
[9] - "مخطوط أُكتو"، ص: 105.
[10] - المصدر نفسه، ص: 105.
[11] - "زوج بغال"، النقطة الحدودية وليس المكان الجغرافي والطبيعي. النقطة الحدودية العار التي سمّتها الذاكرة الشعبيّة "زوج فاقو"، كما يؤكّد ذلك الأستاذ يحيى بزغود.
[12] - مقطع من قصيدة بعنوان "واحد والقلب نصفان" لسعيد عبيد.
[13] - "مخطوط أكتو"، ص: 106.
[14] - "مخطوط أُكتو"، ص: 28.
[15] - المصدر نفسه، ص: 113.
[16] - نفسه، ص: 110.
[17] - نفسه، ص: 111.
[18] - نفسه، ص: 19.
[19] - نفسه، ص: 19.
[20] - نفسه، ص: 112.
[21] - نفسه، ص: 9.
[22] - نفسه، ص: 22.
[23] - المصدر والصفحة نفسهما.
[24] - المصدر نفسه، ص: 15.
[25] - نسبة إلى الشاعر سعيد هادف.

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م