الأفيون و الذاكرة(تابع) -3-
للروائي يحيى بزغود
موسم الهجرة
كان رجال الثورة في القطر الجزائري قد أشعلوا فتيلها منذ نوفمبر 1954، ومع تطور الأحداث هناك اضطُرَّ كثير من المواطنين إلى النزوح من الغرب الجزائري في اتجاه شرق المغرب.
ولم تكن مدرسة "هوارة" قادرة، بحجرتها الوحيدة على استيعاب الوافدين الجدد، فضلا عمَّن وصلوا سن الدراسة من أبناء الدوار، لذلك بنيت على عجل، خلال عطلة الصيف، حجرة ثانية ومسكن للمعلم، فيما تُرِك المسكن السابق لشخص يُدعى الطاهر؛ كان ، في ما يبدو، منسِّقا لجبهة التحرير الجزائرية في تلك الجهة، إذ كثيرا ما كان يأتي متثاقلاً، متمايلاً بسبب عرجٍ في إحدى قدميه، ليبلغ بعض النازحين ممن يقطنون بالضيعة أو بجوارها، بأمر اجتماع في منزله بالمدرسة، طالبا منّي أن أَحَْتشَّ له قُبضة نعناع يانعة!
كان حظ الضيعة من النازحين كبيرا، فقد نزل بجوار عائلتنا أربع أسر، فسكن بوشفرة مع زوجته في غرفة بجوار غرفتنا واحتلَّت أسرة أحمد الشرﯕي مع ابنها الوحيد "حميد" ذي الخمس سنوات تقريبا، الغرفة المجاورة لعبد الله القصاب على اليمين ؛ وأحمد الشرﯕي في الحقيقة أصله من المغرب، أقام في الجزائر منذ طفولته وتزوج هناك، وتطبع بعادة ساكنة سعيدة في الشخير في مستهل كلامه فهو لا يجيبك إلا بعد أن يشخر ويدعو بخراب بيته مرة واحدة، فسميناه أحمد الشخرة! كان أحمد الشخرة رجلا قصير القامة إذا مشى سار متعجِّلا ناترا رجليه في خفة وجهد .
بينما استقر المحجوب مع زوجته في الغرفة المجاورة إلى يسار عبد الله القصاب، وهو رجل كان يحفظ القرآن، وعرفنا منه أنه عمل، لفترة ما، ممرضا في الجيش الفرنسي، قبل اندلاع الثورة بسنين.هو رجل طويل القامة أجلح، وخط الشيب ما تبقى من الشعر في رأسه، وجهُهُ أمرد، عيناه صغيرتان سوداوان تحتميان بأنف أقنى؛ إذا حدَّثك رماك بغمزات سريعة تَتْرَى لذلك سماه الأطفال، منذ اللحظة الأولى، بوغمزة.
بدا " بوغمزة "منذ الأيام الأولى حريصا على معرفة الأخبار ، فتساءل عما إذا كان عند ساكنة الضيعة راديو ، فلما لم يجد أحدا يملك شيئا بهذا الاسم ، أنفق حصيلة الأيام التي اشتغلها في الضيعة في شراء راديو يعمل بالبطاريات، وباع "الفونوغراف" المسمَّى عند الناس آنذاك ب "الشيخ المحـﯕن " لانتصاب ما يشبه القِمع أوالبوق فوقه ؛ باعه في سوق الخردة بثمن زهيد لا يفي إلا بالقليل من لوازم العيش للأيام المتبقية على موعد الأجرة المقبلة، و مدتها أسبوعان بالتمام والكمال، وحرم زوجته خناثة من الاستمتاع بالشيخ المُحـﯕن، إذا اخْتَلَتْ بنفسها. لذلك خاصمته، وارتفعت أصواتهما حتى انتهت إلى الجيران، فسُمِع زعيق المحجوب وهو يقول..".يا مْرا باغْيا تْردِّيني بْروتِي...(-abruti) باغِْياني نْعيش هنا كيفْ لَبْهَلْ ؟ لا أعرف ما يجري فالدنيا ...آ.. يا وعْدي تبكي على الشيخ المحـﯕن؟...راه ما بقاش "مودا"، غادي نشري لك واحد آخر، خير منو"؛ ويبدو أن "خناثة "استمرت في قول أشياء أغضبته، فعلا صوت المحجوب زاعقا مرة أخرى...."أيا اخْرْجي عْلِيا... بْرَبِّي لعْزيزْ عندي لَبْقيتِ... أيا امْشي... أيَّا زيدي.. اخْرْجي..."طوزاميرْدْ.." (tu nous emmerdes) ! فجاءت خناثة مغاضِبة عند والدتي، وتدخل والدي لإصلاح ذات البين بينهما وأنجد المحجوب بمؤونة من دقيق وسكر وشاي على سبيل السلف . وأصبحت كل مشكلة المحجوب مع البطاريات، إذ لم يكن بالقرب منا دكاكين ، وحتى دكان " سعيد البقال " البعيد عنا لم يكن لديه بطاريات لأنها غير مطلوبة كثيرا عند الناس .فكان المحجوب إذا نزل إلى المدينة اشترى منها مؤونة يحسبها كافية، و يشتري جريدة العلم بالعربية أو جريدة الاستقلال بالفرنسية أو كليهما فيقرأ ما بها ويتركها لنا مُلِحّا علينا أن نحافظ عليها و نسلمها إلى زوجته إذا فرغنا منها لتحتفظ بها في صندوق خاص مع بعض الكتب والأوراق، فكنا نتهجَّى ما بها، فلا نفهم منه إلا القليل....
غير أن راديو المحجوب كان من النوع الشره الذي يستهلك البطاريات بنهم فظيع ؛ فكنت تراه مُنْهَمِكاً في غَلْي البطاريات المستعملة طامعا في إنعاش ما تبقى فيها من مخزون الطاقة ، فإذا خَفَتَ صوت الراديو، وضعه بمحاذاة أذنه وألزم الجميع بالصمت !
و كانت الأسرة الرابعة من النازحين هي أسرة رمضان الواسيني.
كان نزق الأطفال يدفعهم إلى التفنن في خلع الألقاب على الكبار، فلا يضيعون فرصة من زلّة لسان تبْدُر من أحدهم، أو عادة متمكنة من حركة أو كلام، أو عيب مميز في الخلقة عند آخر، دون أن ينتهزوها لاختراع ألقاب لهم يتداولونها في ما بينهم بدلا عن أسمائهم الحقيقية، ويجدون في ذلك متعة بالغة!
فإسماعيل المصمودي الذي كان من عادته تعرية ساقه وصفعها كلما شرع في الكلام لقبوه هاصاﯕي (هذه ساقي). وهم ينطقونها بتفخيم السين ونطق القاف كما ينطقها اليمنيون.
أما رمضان الواسيني فلقبوه بـ انـﯕوسوب، إذ إن الناس في شرق المغرب وغرب الجزائر، إذا أرادوا التعبير عن كلمة "يعْني" قالوا "مَحْسوب"... ولكن رمضان، لسبب ما، كان يقول "انـْﯕوسوبْ"!
ولأن والدي – محمد- كان يرعى شاربين كثيفين، سموه موسطاش ( أبو شنب). ولما لم يجدوا في بوشفرة شيئا يلقبونه به استنجدوا بعاشور ـ وكان شيطانا حقا ـ فاخترع له اسما بوضع مقابل فرنسي لكلمة " الشفرة" في اسمه ، فقالوا له بولام!
كانت أسرة رمضان" انـﯕوسوب" متعددة الأفراد ولم يبق في غرف الضيعة بيت يتسع لها ، لذلك نصب صاحبها خيمة كبيرة بالقرب من الضيعة تقيم العائلة فيها نهارا، فإذا غشي الليل، انشطرت إلى فريقين، فيبيت رمضان وزوجته فاطنة وابنته حورية وابنه بندالي والرضيعة شهيدة في الخيمة، بينما يلتحق محمد والعيد والطيب بغرفتنا، أنا وإخوتي، ليناموا معنا، فيتمدد الجميع، بعضهم إزاء بعض في فراش واحد !. لذلك أصبح مطلوبا، لردح من الزمن، أن يفِيَ الفراش ضرورة، بحاجة ستة أفراد إلى النوم، قبل أن يلتحق بنا بندالي بعد أن احتلت حورية وشهيدة شق الخيمة الذي كان ينام فيه، ثم اضطر الخميس إلى أن يعتزل غرفة والدي...فأصبحنا ثمانية أنفار وانقسمنا إلى مجموعتين تحتل كل واحدة منهما ركنا من الغرفة بفراش مستقل.
كان الفراش، بالنظر إلى من يطلبون النوم، في ليالي الشتاء الباردة، مشكلةً حقيقية؛ فقد كان الفراش عبارة عن حصير يمدد على طول الغرفة، ويبسط فوقه "بوشراوط"، وهو ليس سوى حصير أيضا، لكن سداه خلط بقطع الكتان المستخلصة من الأثواب البالية، وقد توضع فوقه بضعة ألحفة، تمد عرضا، حتى يستفاد من طولها؛ أما الأغطية فلا تتعدى كساءين من الصوف ويكون أخي سليمان في هذا الجانب أو محمد ولد رمضان في الجانب الآخر عرضة لأن يسحب عنه الغطاء!
لذلك كنا نعمد في بعض الليالي، إلى جذوع الحطب فنضعها في جفنة قصديرية كبيرة، ونشعل النار، فنستعين بلهَبها، بعد عيون دامعة من معاناة الدخان، على مطاردة البرد، ويكون أسعدنا حظا من تكون الجفنة قريبة منه، فيسري الدفء إلى أعضائه وينام ملء العين قريرا!
بيد أن بعض الليالي تكون قاسية برياحها وأمطارها فتضطر بقية أسرة رمضان إلى الانتقال إلى منزلنا لتندمج الأسرتان، فينام الرجال في غرفة والأطفال في غرفة، وتتخذ الإناث من المطبخ غرفة للنوم ثالثة!
في مثل تلك الليالي الغاضبة، كثيرا ما كنا نستفيق على صوت رمضان "انـﯕوسوب" وهو ينادي على جميع من في الدار مفتونا، فتصل الأسماء إلى أسماعنا مثقوبة أو مبتورة، ذهبت الريح ببعضها.. سْـ... مان... مْحـ ...آد ... الـ.... ود ... فيفتح أحدنا الباب ليجد أمامه، رمضان وزوجته تحمل شهيدة في ذراعها وإلى جانبهما بندالي وحورية وقد غطَّوا رؤوسهم بألحفة وأغطية، وهم يحملون ما خف من وسائد و أفرشة وزاد...
فإذا استمر غضب الطبيعة أياما عدّة، تشاركت الأسرتان المتوفِّرَ من الغذاء ، وانتظم الأكلُ جماعة، غير مقيمين وزنا لعدد الأفواه التي تنتظر الطعام، فكل شيء وُجد، يغدو صالحا للوفاء بهذا الغرض... كسكس أو دشيشة شعير مع بطاطس أو قرع أو لفت عند والدتي؛ أو أرز وزبدة مما كان يجود به الصليب الأحمر، عند أسرة رمضان... وما كان أعظمَ إنسانيةََ الناس عند الضيق، في ذلك الزمن!
لم يكن بالضيعة كهرباء، ولم تكن مصابيح الكيروزين –عندنا- جارية الاستعمال بعد، لذلك كانت الاستنارة تتم بالشمع، فإذا أوشكت الشمعة على الذوبان، جاءت والدتي فأطعمت دمعها ببعر الأرانب اليابس فينتعش نَوْسُها، وينهزم الظلام قليلا إلى حين!
غير أن محمد وهو أكبر أولاد رمضان الواسيني (انـﯕوسوب) كشف لنا طريقة للاستنارة بالمازوط، الذي كان متوفرا بكثرة، لأن محركات السقي تشتغل به...فكان يعمد إلى قنينة من زجاج فيملأ نصفها ماء ويضيف إليه "المازوط"، ويُدَلّي فيه فتيلا من كتان عبر ثقب ينشئه في السدادة، ويشعل النار في ذؤابتها الناتئة فنستضيء إلى أن تنتهي السهرة، أو نضيق برائحة المازوط الكريهة وسخامه الأسود، فنطفئ المصباح عنوة، ويستمر بعضنا في الحديث عبر أعطاف الظلام !
******
التحق محمد ولد رمضان (انـﯕوسوب) للاشتغال بحظيرة الأبقار، يكنس روثها ويفرش مرابضها تبنا، ويحلب ذوات الحليب منها؛ واشتغل أبوه – رمضان- في الحرث وسقي الأغراس، أما أخواه، العيد والطيب فالتحقا بمدرسة هوارة؛ فتعززت بذلك مجموعتنا التي كانت تتكون أصلا من أخي سليمان وعاشور القصاب وعبد الرحمان ولد بلعيد وقويدر ولد حبيبة وأنا، فأصبحت عصبة يحسب لها حسابها في المنازلات بين أطفال الدشور، قُبَيلَ العُطل المدرسية.
ذلك أن أيام الشتاء كانت تمر ثقيلة، فينزل نشاط الأطفال إلى حده الأدنى، وتتباطأ حركاتهم وهم يرزحون تحت ثقل جلابيبهم وبرانيسهم، فلا يصطنعون من الألعاب إلا ما يتناسب مع ضرورة الانكماش والازدحام والمحافظة على الدفء...فإذا حلت أيام الربيع وفترة من أيام الصيف، تفجر ما لديهم من طاقة كامنة ونزَقٍ مؤجل... فكنت تراهم وقد تحلّلوا من أثقالهم ينصرفون خفافا بين الحقول، لا تستطيع تمييز رؤوسهم الناتئة كالقنافذ من بين السنابل والأعشاب البرّية، حتى إذا جاء آخرُ يوم يسبق العطلة، أصابتهم "الهَبْلة" وأعلنوا ما كان بينهم من عداوات صغيرة مصرورة، وانقسموا شيعا وعصبيات تبعا للمداشر، فيتكلف الصغار "Les petits" بحفظ الأمتعة، وينخرط الكبار في معارك لا تخلو من بعض الخسائر، ولكنهم يجدون في كل ذلك متعة ونشوة شبيهة بما يعتري المتحاربين في ساحات الوغى، عدا أنها خالية من أحقاد الحروب!
ولقد عرف المعلم بأمر هذه العادة، فكان إذا حان ذلك اليوم يقف على عتبة منزله مشيّعا إياهم بالنظر حتى ينصرف كل نفر إلى مسلك دشره ؛ بيد أنهم كانوا يتظاهرون بالانصراف وهم يرقبونه بطرف العين، حتى إذا اطمأن ودخل إلى داره، عادوا على أعقابهم ليلتحموا في معارك لا تضع أوزارها حتى ينال بعضهم من بعض، ويصابوا بالإجهاد!
على أن عصبتنا بقيادة أخي سليمان وعاشور القصاب ومع انضمام العيد ولد رمضان وأخوه الطيب، إضافة إلى انحياز الجيلالي القنفوذي وأصحابه بحكم وحدة الطريق المؤدية إلى دوارهم مرورا بالضيعة، ظلت مرهوبة الجانب ؛ ولم تتأثر إلا قليلا بالخصومة الشرسة التي تواجه فيها ذات يوم، الجيلالي مع العيد الملقب عندنا بـ الطامسو، والتي وقفنا فيها نحن على الحياد؛ لذلك لم يكن التحرش بنا يحدث إلا نادرا، فإذا قدر لنا أن نشتبك في معركةٍ ما، جاء صياد يذرع الحقول كأنما هتف به هاتف، فينضم إلى عصبتنا نابحاً، مكشراً عن أنيابه، فما يلبث "الأعداء" أن يجنحوا إلى السلم أو يطلقوا سيقانهم للريح! وبذلك صارت سطوة صياد معروفة عند أطفال الدوار ؛ خبِروها غير ما مرّة، في تلك المعارك "المجيدة"!
كانت تلك المعارك تجلب المتعة للأطفال، فينتظرون موعدها كما ينتظرون أيام العيد،غير أن إحداها ظلت ماثلة في أذهان التلاميذ، لأنها خرجت عن المألوف من المناوشات، وانقلبت إلى عراك حقيقي، استعد له الطرفان بما يكفي من الشراسة؛ كان الأمر يتعلق بمواجهة بين أخي سليمان من جهة وأحمد ولد لخضر الرميلي من جهة ثانية...
كانت العطلة الربيعية على الأبواب، وكان الحساب المصرور بينهما يعود في ما قيل، إلى وشاية سعى بها أحمد لدى المعلم ضد غريمه، يتهمه فيها بإقامة علاقة غير شريفة مع إحدى التلميذات، وهي شابة يافعة التحقت بالمدرسة، في سن متأخر مع بضع قرويات، ويبدو أن أحمد الرميلي كان يطمح إلى الفوز بها، فلما أخطأه الحظ نقل الخبر إلى المعلم على سبيل الانتقام، فأسرها سليمان في نفسه وانتظر فرصة العطلة. كان سليمان طويل القامة أوتي بسطة في الجسم، جعلته يبدو أكبر من سنه الحقيقي وكان أحمد الرميلي نحيف الجسم وممشوق القد هو الآخر، اشتهر بين الأقران بإتقان فن الملاكمة والقدرة على المراوغة؛ ولقد تحسب سليمان لأمره فأخفى في محفظته سلسلة معدنية من ذلك النوع الذي يستعمل في الدراجات العادية، ولم يُطْلع أحدا على أمرها؛ كما أن أحمد كان يتوجس من هذا اليوم ويتحسب لأمر صياد.. لذلك اصطحب معه كلبين ربطهما إلى جذع شجرة، غير بعيد من المدرسة.
فلما نشبت المعركة تحولت من مجرد لعبة طالما استمرأها التلاميذ عشية كل عطلة، إلى معركة ثنائية بين سليمان وأحمد الرميلي، وحاول أحمد في البداية أن يستبق سليمان بلكمات سريعة فتحمل سليمان بعضها ريثما يخرج السلسلة من تحت حزامه وينهال بها على أحمد حيثما أمكن، فانبجس الدم من رأسه ولم يجد من خلاص إلا الاستنجاد بالحجر، وسرت العصبية بين الدشور فحمِي الوطيس وتبادل الجميع اللكم والركل، والقذف بالحجارة. وحضر صياد إلى ساحة الوغى كعادته ولكنه وجد كلبي أحمد في انتظاره فاشتبك معهما في عراك ضار انتهى بانهزامهما فطاردهما، حتى تخوم ديار لخضر الرميلي، ثم قفل راجعا يذرع الأرض بين الحقول.
وكان الصخب الذي يصاحب الكر والفر قد انتهى إلى أسماع المعلم سي عالم فخرج غاضبا لمطاردة فلول المتخاصمين فاضْطُرَّ قائدا المعركة إلى فض الاشتباك محتفظين بأحقاد لم تنته إلا بعد أمد طويل... أياما قليلة قبل التحاق أحمد ولد لخضر الرميلي بصفوف الجيش الملكي في صيف 1959.
نشأ صياد جروا وحيدا يتيما بعد أن ماتت أمه تحت عجلات سيارة محمد الرايح، بينما كانت تعترض سبيلها مستبسلة كعادتها في اعتراض طريق من يلجون الضيعة دون استئذان، ثم مات جِراها الثلاثة أياما بعدها، ولم يبق إلا صياد – وهو الاسم الذي ناديته به قبل أن يفتح عينيه- فاعتنيت به وتحايلت لإرضاعه حليب الأبقار بشتى الطرق؛ وهيأت له مرقدا في قفة من تبن وضعتها بالقرب من معلف البغلة، فلما اشتد عوده ونمت عضلاته وسَّعت له المرقد باتخاذ قفة أكبر... فنشأت بينه وبين نانو صداقةٌ غريبة ازدادت صلابة مع مرور الأيام !
كانت نانو من ذلك النوع من البغال الذي يتمتع بالهدوء والذي يكلف في أشغال الضيعة، بالأعمال التي تتطلب دقة وفهمًا وامتثالاً!
فكنت ترى صياد إذا انتهى من مرافقتنا إلى المدرسة كعادته، تركَنا بالقرب من الساحة وعاد لتوه إلى حيث تقف البغلة، فأقعى بجوارها، فإذا ربطوها إلى المحراث لينجزوا خطوطا مستقيمة يحددون بها المساحات التي سيحرثها الجرار، سار إلى جانبها غاديا رائحا لا يفارقها ؛ ويبدو أن نانو قَدََّرَت أمر هذه الصداقة، وارتاحت لها، فباتت لا تبدي جهداً و رغبة في جر المحراث إلا بحضوره!...
*****
كان يفد على أسرة رمضان الواسيني في بعض الأيام شاب من أقاربه يدعى إدريس بن رحال، عرفنا منه أن أباه من أصل مرُّوكي (مغربي) عاش سنين طويلة في الجزائر، وتزوج أخت رمضان الواسيني هناك، ومات في مظاهرات 8 ماي 1945 بشرق الجزائر حين كان عمر إدريس لا يتجاوز 5 سنوات ، وعمر أخيه أحمد يتعدى السبع بقليل؛ غير أن أحمد لم يشأ النزوح إلى المغرب سنة 1956 لأنه كان قد أنهى تعليمه الثانوي وحصل على منحة لمتابعة دراسته الجامعية في الجزائر العاصمة (الدزاير) أياما قليلة بعد وفاة والدتهما!.
أشاع إدريس عن نفسه أنه سيلتحق بجيش التحرير الجزائري، وكان يحلو له أن يتكلم باللهجة المصرية وينطق الجيم على طريقتهم، فكان مصدر إعجاب الأطفال في الضيعة ومن يجاورونهم عن قرب في الدوار، وأصابتهم العدوى في نطق كل ما فيه "جيم" على طريقته.
كان إدريس يبدي اهتماما خاصّاً بعاشور القصاب، انفرد به ذات يوم وأسرّ له بأشياء، أبقاها عاشور طي الكتمان؛ ثم غادر إلى وجهة غير معلومة، فانقطعت زيارته للضيعة عدّة أشهر...