الخميس، 28 فبراير 2013

رواية "مرايا" الـــعتـبات المــــتناسـلـة/ إدريس يزيدي

رواية "مرايا"

 الـــعتــــــبات المــــتناســــلــــة





* إدريس يزيدي
Drisss.yazidii@gmail.com

رواية "مرايا" هي الإصدرا الثاني للروائي والقاص مصطفى شعبان الذي تزامن مع إصداره مجموعته القصصية "وردة الشاعر"، الأديب المغربي المقيم في باريس نشر روايته الأولى "أمواج الروح" سنة 1998 وقد لقيت أعماله نجاحا واستحسانا من لدن العديد من النقاد والباحثين.
تقف الرواية عند محطات اجتماعية عدة، من الزواج المختلط إلى نزاع الهويات مرورا بتقاطع الثقافات، وكلها تمتح من المحرك الرئيس لهذه التفاعلات، ألا وهي الهجرة التي تشكل التيمة الأساس لعموم النص.

لعل الكثافة الإغترابية التي تطبع النص هي الباعث الأساس لجعل "مريا" نصا موازيا لكل ما يضطلع به السردُ الذي يواجهنا، إذ العتبة مبتدأ يضيع خبره في ثنايا النص والذي يولّد البحثُ عنه حيرةً تسكن القارئ كلما جال في فجاج الصفحات. هي مرايا لأنها مرآة واحدة لا يعتورها الصدأ رغم عمليات الكشط التي تركت بصمات العديد من الشخصيات التي تسكن كيانا واحدا حتى استحالت المرآة-الأم مرايا متعددة. ووقوفا عند قول جيرار جينت:"علينا أن نحذر العتبات"1 نخوض غمار النص حتى نتبين مدى تلاؤم النص والنص الموازي.

مطلع الرواية يجعلنا نتحسس في ذاكرتنا أماكن عدة كان لها حضور صارخ في الرواية المهجرية: حديقة لكسمبورغ، شارع سان ميشال..إنها الأماكن نفسها لكن بعدسة جديدة، عدسة تجرد الأحيزة من جمودها، تتفاعل معها، تحملها وزرها ساعة الانتكاسة:" يبصق على مكان اللقاء" ص10. " فالمكان في حركة أخذ وعطاء مع الشخصيات الروائية وأحداثها يتوجه بوجهتها، ويرتبط بحركتها. ويقدم بما يدفع بأحداثها إلى الأمام"2 . ولذالك تطورَ السردُ في صيرورته للبحث عن الهوية التي ضاعت حينا والتي يُخشى على ضياعها حينا آخر، فالشبح الذي يتهددها ليس إلا المسرح الذي أُرغمتْ على العيش فيه وهو ضفة الشمال عموما." تذوب الخصوصية. تتلاشى في ضفة الغالب مع الزمن"ص39. أماكن- كما استهوت الجيل الراهن- استهوت الجيل الأول الذي صنع الهجرة، بهذا تثبت فاعلية سُنّة اتباع المغلوب للغالب، فهذا السي العياشي يحكي عن أيامه الأولى :"الحي اللاتيني، شارع سان ميشال، وشارع سان جيرمان، أماكن استهوتني في البداية" ص118. تتقوى العلاقة- التي تسكن الإنسانَ – بالمكان في جغرافيا المهجر، ثم تزداد هذه العلاقة حميمية عندما تلامس ربوع النشأة والصبا. إذ تكشف التفاصيل المحكية التي لا تتأتّى إلا لمن خبر المكان شبرا شبرا، ولا تنصاع إلا لمن عايش احداثها لحظة بلحظة. "خلف باب السوق توقفت عربات "الكارو" المجرورة بالبغال والحمير تنتظر المتسوقين. سائقون يرتبون الأمتعة.....بغل حرون لم ينقد للطريق، ولا يريد مفارقة المكان......صاحب العربة موزع بين الإغراء والسب"ص62، إنها عدسة مصور لا تغادر صغيرة ولا كبيرة. ثم تنتقل بنا هذه العدسة إلى عقر الدار لتضفي على المادة المحكية شمولية تجعلها تتسلل إلى وجدان القارئ " كانت جلسات المنزل والزيارات العائلية بابا لمريلين، يقربها....يغيب الحاج حمادي عن الجلسات.....ينزوي الحاج في ركن من البهو وسط عباءته الصيفية الفضفاضة" ص65.  على هذه الشاكلة نتعرف على الجنس البشري الذي يصنع الاحداث والذي تعكسه مرايا النص، إذ الحيز المكاني هو مرآة ناصعة للإنسان الذي أنتجتْهُ، وهكذا فأنتَ " إذا وصفتَ البيت فقد وصفت الإنسان"3 .

وعند استرسالنا في قراءة المتن، نلفي أنفسنا أمام سؤال الحبكة الروائية، أو التحليل النفسي الروائي على وجه الخصوص. إذ تتقمص مريلين شخصية نجاة في عملية لا يمكن عدها إلا طفرةٌ تتم على أدق المستويات. فنحن نفاجأ في أول صفحة من الفقرة الثانية-العودة وعودة العودة- بعبارة تلج بنا منطقة هلامية" هو صالح ابني قد وصل يوم السبت. تزوج فتاة أمريكية تعيش في فرنسا. أسلمت وأسميناها نجاة" ص45، نُسلّم بهذه الحقيقة ونمضي قُدُماً نمخر عباب المتن نستكشف الدوافع التي أفرزت هذا التحول، لكننا مانفتأ حتى نصطدم بما لم يكن في الحسبان، إذ نكتشف أن اسمها صار يتأرجح بين مريلين ونجاة" مكثت أستحضر ذكرياتها مسهبا إلى أن رمتني مريلين بنظرة متسائلة"ص50، إنه مازال يحتفظ باسمها الحقيقي في دخيلة نفسه، في اللاشعور، أي الذاكرة الأولى. وهذا ما أكده مارت روبير:" اللاشعور والشعور، الذاكرة الأولى والراهن" 4 ثم نجده يغالب نفسه في الحديث إليها ويناديها باسمها الذي قرره الشعور/الراهن " هذا جناح الملابس يا نجاتي"ص55 ثم يعود لينعطف ويحكي عنها ليفكر فيها باسمها " ابتهجت مريلين لفرجة السوق الذي بقيت في مسرحه"ص58. إنها الذاكرة الأولى التي تعانق اللاشعور، تأبى أن تتخلى عن سطوتها. وهو ما قرره الراوي نفسه قبل أن يكاشفنا بهذا التأرجح بين الشعور واللاشعور، بين نجاة ومريلين" إن الذاكرة لا تستجيب بسرعة للتغير، فهي تحافظ على عذرية الأشياء" ص50.

مهما تكن الزاوية التي ارتأيناها للنظر من خلالها إلى هذا المتن، فإننا لا نستطيع أن ننأى بأنفسنا عن المثلث الذي يقيدنا به النص والذي تناسل-أصلا- عن العتبة، ألا وهو مثلث"الظمأ" و"العودة وعودة العودة" و"القابلة". هذه الأثافي الثلاثة هي التي تنضج عملية السرد دون أن تسْلُب شيئا من حضور وهيمنة العنوان الرئيس. فمرايا عتبة حبلى بنوايا دلالية تتجلى باستيقاظ العديد من الكيانات في نفس صالح، حتى إنه ليتبارى النقيضان. انتكَري يبرر كل دوافع الإندماج والتأقلم، بل أحيانا الذوبان الذي يصفه بأنه " تحول طبيعي لحتمية لابد منها، قد تمنعه الآن وتوقفه، ويصير ممكنا مع الأجيال القادمة"ص198. في حين يطل حمدون ليلدغ النفس بشوكة الإنتماء وذكرى الجذور" مريلين زائرة عائدة. أي تربة تشدك انت الآن؟ " ص105. تهيم الشخصية الجوهرية بين المطرقة والسندان فتبدأ في عملية -   تحت وطأة الحيرة- شبيهة بالتحلل " يتعمق السي أنتكَري. تتسع له رقعة السكن مع الوقت أكثر فأكثر يشعر حمدون بالزحام والضيق" ص127.
ثم أخيرا نجد أنفسنا أمام الهلامية التي وعدنا بها العنوان، لنجد المرآة التي وجد صالح فيها نفسه- كخيار أخير أُجبر عليه- وهي مرآة تمسك بالعصا من الوسط ليعيش النقيضان في الكينونة الممزقة " يتعايش القديم والجديد في جوف صالح: شرق وغرب، ويسير الزمن" ص129

لقد كانت رواية "مرايا" في سردها الرصين تبعث على القلق تجاه الأجيال القادمة التي لن تصمد طويلا في مقاومتها للثقافة الدخيلة، بل ما تفتأ حتى تنصاع لها حتى في أدنى مستوياتها، إذ يعرض النص لنا أنموذجا لهذا الإنشطار" عاد ماريو/مرزوق إلى المنزل" ص154. لقد حاول مرزوق في البداية – محاولات خجولة- أن يحتفظ باسمه، إلا أن الواقع أثبت أن تأثير الوسط الإجتماعي أعتى من تأثير الوسط الأسري. تقَبَّل مرزوق الإشتقاق القلق الذي انتُزع من اسمه – من قِبَل زملائه- وأسكنه فسيح كيانه، فها هي ذي أمه تناديه"- تعال يا مرزوق؟! مرزوق لم يجب دعوة أمه" ص154.

إنه الهاجس الذي يسيطر على أفكار النص في العديد من جوانبه. هاجس قلق مرتبك يقف مشدوها مكتوف الأيدي أمام المصير الذي ينتظر الأجيال المتناسلة" النفحة التي تغذي رئتيك، تمططها. رائحة قد لا تحرك خياشيم النسل. إن الثقافة تكتسب، وكل مكتسب حين يسكن الجذر، يشد المرء للدفاع عنه مع الزمن" ص104. بهذا يكون النص لبِنة جديدة في بنيان الرواية المهجرية المغربية، إذ من خلال استنطاق الأجيال الأولى التي ذاقت مرارة الإغتراب وتجرعت توابعه، رَسَمَ التجليات التي تومض بما ستؤول إليه الأجيال القادمة في دروب الهجرة والإغتراب.


1/ Gérard genette Seuils , éditions du seuil, paris, p376
2/ شاهين، أسماء: جماليات المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية
للدراسات، بيروت، 2001: 17.
3/ويليك، رينيه، وأوستين وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي: 288.
4/ رواية الأصول وأصول الرواية.. الرواية والتحليل النفسي، مارت روبير، ترجمة وجيه أسعد، إتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1987 ص 43


 



سعيد هادف شاعر يستمد قوته من الفكر/محمد العرجوني

سعيد هادف
شاعر يستمد قوته من الفكر

***
الإنسان والشاعر
شهادة في حق شاعر صديق بقلم محمد العرجوني
***
شاعر حتى النخاع، منذ أن أصبح مسكونا بعبقر الشعر، وهو بمسقط رأسه، بتامزوغا، بلدة عند سفح جبل "ملاتة" بولاية عين تموشنت، جنوب وهران..
هو الآن، منذ 1998، بوجدة..دائم البحث عن قصيدة تمجد الإنسان في بعده الكوني. تمجد السلم والحب بين الشعوب، تمجد التسامح، تمجد الحرية..

هو الآن بوجدة، يبني حياته من جديد كما تنكتب القصيدة التي تأتي بالجديد..يكتب الشعر تماما كما يبني حياته من جديد..يكتب حياته رفقة عائلته الصغيرة..ويبني شعره من خلال تجاربه العميقة..يكتب القصيدة من داخل الألم، لكن أيضا، وخاصة من داخل الأمل والبهجة.. حرصا على أن تكون القصيدة صرخة نابعة من العمق الإنساني، لكن مبنية على منطق يتسلل إلى القارئ بكل سهولة..هو ليس غريبا عن المغرب، سبق له أن زاره في مناسبات شعرية، في 1989، حيث زار فاس والرباط..
الشعر تجربة.. حسب اعتقاده، واستنادا إلى أرسطو، الذي يرى الشعر تمثلا للواقع، إنه نوع من الديالكتيك بين الشخص والطبيعة،..، إنه أيضا تمثل تخييلي لكنه خيال فاعل وليس جامدا، تَمثُّلٌ جمالي ورمزي واستعاري، هدفه الأساسي تخصيب هذه العلاقة المتحركة بين الشخص والوجود.
ويصبح هكذا الشعر بالنسبة لسعيد هادف، هوسا بالبحث عن الحرية في مفهومها الشامل.. بل الشاعر منذور ليخلق حريته الداخلية العميقة. وبما أن اللسان هو مادة الشاعر الأولى، مادته الخام، عليه، إذاً، أن يتحرر من عقاله بصفته معطى سابق، بهدف خلق لغته الخاصة..مادام التحرر من الواقع هو تحرر من عقال اللسان بصفته صاحب خطاب سابق. وهكذا يصبح النص الشعري زمنا مفترضا. يبدو أيضا، حسب الشاعر أن الشعر والحرية، توأمان ملتصقان، حياة الواحد منهما خاضعة لحياة الآخر..
سعيد هادف..شاعر جعل من شعره مادة بناء الوحدة المغاربية، خاصة وأن المغرب والجزائر يعتبران حجر الزاوية لهذا البناء، انطلاقا من خصائصهما الثقافية..في هذا السياق، يلتحق، كما يقول بالشاعر منصف الوهايبي، في ديوانه: مخطوط طومبوكتو، وبالشاعر المغربي: إدريس الملياني، في ديوانه: حدادا علي، لأن ديوانيهما يتمثلان التاريخ المغاربي شعريا. ويلتقي بهما، حيث يشتغل هو أيضا في هذا الاتجاه كما توضح ذلك نصوصه: زغبة يفقأ مرآة خطاه، والهزيع الأخير، وجدار بغلين.. وبما أن الشاعر بطبعه يومئ إلى المستقبل، كما يقول هايدغر، فعلى الشاعر المغاربي أن يشتغل على جمالية النص القادر على إصلاح وترميم تاريخ وجغرافيا هذه الشعوب المغاربية، من منطلق أن المستقبل يولد تمثلنا المعرفي والجمالي للماضي.
أما فيما يتعلق بنظرته للشعر في علاقته ببلاده الأم، فإن الشاعر يرجع أزمة الجزائر إلى غياب العمق الشعري لتاريخها، لهذا يرى أن الجزائر الشعرية لا زالت لم تر الوجود. ويضيف أن الجزائري محارب بطبعه، وهنا تكمن الإشكالية، حيث يتساءل كيف يمكن إحياء الشاعر بداخل هذا المحارب. يعطي مثالا على ذلك بالإشارة إلى الأمير عبد القادر المتصوف والشاعر، غير أن الجزائر لا تعرفه إلا بصفته محاربا..
وهو يسعى في بحثه الدؤوب إلى رصد الآليات التي أدت إلى انتصار المحارب على الشاعر.؟؟
اختار ،إذًا، الشاعر سعيد هادف الكلمة من أجل جمالها وقوتها ليعانق الإنسانية وليسبر جغرافيتها الشعرية.. كتابته تنطلق من الفكر وليس من الفكرة أو من الكلمة كما هو حال بعض الشعراء، وهكذا يكون فيما أعتقد دخل مدار الشاعر الحكيم، الشاعر الفيلسوف، لأن الشعر في جوهره، فلسفة. فالقصيدة لديه فكر وليست هذيانا..وحينما ينطلق الإبداع من الفكر، فالشاعر، هنا، يكون أكثر قربا من الحكمة. وحينما يتمكن الشاعر من الجلوس إلى جانب الحكماء، فإن الشعر بالنسبة إليه يصبح خطابه اليومي، لأنه وحده يستطيع أن يفشي أسراره..فعلى المتلقي أن يسبر هو أيضا أغوار الفكر، لكي يتم التواصل. فقصائد هادف تمنطق الشعر، وتشعرن المنطق. هناك حضور للتاريخ ولعمقه الفلسفي..هناك حضور للجغرافيا، وبكل تأكيد تستمد القصيدة لديه روحها مما يمكن أن نطلق عليه، في اتفاق تام معه، "الجيوشعرية" أو "الجيوبويتيك"..
إنه صديقي منذ مدة..يمكن أن أستعير صورة علمية، أو بالأحرى فيزيائية كي أعبر على هذه الصداقة التي جمعتنا في العمل الجمعوي والإبداعي والفكري، نحن كالإلكترونات نلتقي ونتقاطع ونتباعد، لنلتقي ونتقاطع ..ندور حول جوهر الحياة..
فمرحبا به كشاعر بالمقهى الأدبي..بوجدة..
صديقك: محمد العرجوني
• شهادة ألقيت بالمقهى الأدبي "لاميرابيل" يوم السبت 02 فبراير 2013

الخميس، 21 فبراير 2013

اعلان

اعلان




احتفالا بعيد المرأة

يستضيف المقهى الأدبي بوجدة القاصة والروائية  السعدية سلايلي

في حفل توقيع مجموعتها القصصية
 :اغراء البياض

يقدمها الروائي يحيى بزغود
:عالم القصة القصيرة عند السعدية سلايلي

والشاعر محمد ماني :
قراءة في "اغراء البياض "

بمشاركة مجموعة من شواعر مدينة وجدة

مع وصلات موسيقية من أداء  العازفة سكينة جمالي

ينشط اللقاء الناقد :
فؤاد عفاني

وذلك يومه السبت 02 مارس 2013 بمقهى لاميرابيل وجدة

ابتداء من الساعة الرابعة زوالا

الالتزام في المنجز القصصي /فؤاد عفاني


الالتزام في المنجز القصصي لجيلالي خلاص
قراءة في قصة "ليلة بيضاء"[1]
 "يتضمن صنع قصة، ليست فقط اختلاق شخصيات، مواقف،  مشاهد، تأثيرات، تغيرات غير متوقعة، ومفاجآت: بل يتناول   أيضا في رأي ما، واحدا من المظاهر الأكثر طموحا لتعبير شخصي متخيل"[2]  



 بقلم د فؤاد عفاني

عرفت الحركة النقدية العربية في العقود الأخيرة اهتماما جليا بمسألة التجنيس، ومحاولة رسم حدود تهيكل وضع الأجناس الأدبية. وإن كان هذا الموضوع قد طرح في البداية مع الشعر وأشكاله المتجددة، فإن صعود نجم الإبداع السردي نقل الإشكالية من الشعر إلى الآثار السردية. إن أغلب النقاد مقتنعون بأهمية وضع الضوابط المنهجية للتجنيس قصد ولوج أيسر المسالك إلى تقنيات التجديد العلمي. ويزيد من قيمة هذه القضية ما وقف عليه الدارسون من "ظاهرة أدبية تاريخية مدارها أن الآداب الإنسانية تختلف من حيث نمط الأجناس السائدة ومعايير تصنيفها  وذلك بحسب الحضارات"[3]. وبالتالي فإن كل حضارة وتراكم ثقافي ما إلا ويستبطن معايير تصنيفية خاصة بأجناسه الأدبية التي ينتجها، بغض النظر –طبعا- عن بعض الأجناس التي تتشارك فيها عدد من الثقافات.
      هكذا، فإننا حينما نود الحديث عن حدود القصة نقف على مدى صدق مقولة تودوروف بأن "تصنيفات الأجناس المقترحة حتى الآن، لا يحصرها العد، ولكنها نادرا ما ترتكز على فكرة منسجمة بشأن القانون الأساسي لوضع الجنس نفسه"[4]، فيتعذر علينا، لذلك، أن نميز تمييزا دقيقا بين القصة والقصة القصيرة والحكاية، بل وحتى بين القصة والرواية حينما تخرق إحداهما حواجزها كالحجم مثلا..
وبعيدا عن الحدود المنطقية، فإن القصة القصيرة شكل "أدبي يستطيع أن يتحمل القدرة على احتواء أنماط عديدة من القيم التعبيرية حول الواقع والفكر"[5]. وهذا ما يجعل منها نوعا أدبيا قادرا على التكيف مع كل الوضعيات  المتجددة للمجتمع، إلا أن هذا التجدد مرهون بمدى تحقيق المجتمعات لحريتها وانفكاكها من أسر الاستبداد، فالقصة "هي الابنة الشرعية للديموقراطية، ديموقراطية الطبقة المتوسطة، أو ديموقراطية تساهم في وجودها الطبقة المتوسطة"[6].
     إن القصة الجزائرية –التي هي موضوع الدراسة- تمكنت رغم تأخر انطلاقتها  من إثبات وجودها والدفاع عن حرب الإنسان من أجل الحرية، ولعل قصة "ليلة بيضاء" لجيلالي خلاص من أفضل النماذج –الجلية لذلك، فكيف أثث القاص عمله السردي؟.
العنوان باعتباره عتبة نصية:
       اعتنت السيميوطيقا بالعنوان اعتناء كبيرا، لكونه يمثل بؤرة دلالية كبيرة الأهمية في تحليل الخطاب الأدبي، وعلامة ضرورية لفك العديد من شفرات النص واستنطاق أغواره، فد أبرز "البحث السيميولوجي أهمية العنوان في دراسة النص الأدبي، وذلك نظرا للوظائف الأساسية (المرجعية والإفهامية والتناصية) التي تربطه بهذا الأخير وبالقارئ، ولن نبالغ إذا قلنا إن العنوان يعتبر مفتاحا إجرائيا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي"[7].
      بناء على ما تقدم، نرى أن من باب التدرج في التحليل والمقارنة أن نطأ عتبة العنوان ونستكنه ما تيسر لنا من مغالقه. إن العلاقة بين العنوان "ليلة بيضاء" والنص، هي – على رأي جون كوهن- من باب الإسناد والوصل والربط المنطقي، فإذا كان العنوان بحمولته الإبداعية وأفكاره المبعثرة مسندا، فإن العنوان مسند إليه. ويتكون عنوان القصة من اسمين نكرتين (ليلة/ بيضاء) والعلاة الرابطة بينهما علاقة نعتية يصف من خلالها الاسم الثاني الأول. أما من حيث الدلالة فليلة لفظ يدل على الزمن ، بينما يحيل لفظ "بيضاء" على اللون، هذا التباين بين الحقلين اللذين أُخذت منهما المفردتين زاد من حدة التعارض، فالأقرب إلى الذهن أن تكون الليلة سوداء أومظلمة أو....
        إن الغاية من وقوع هذا الانزياح بين المحور العمودي والمحور الأفقي هي إدماج المتلقي –مند أول وهلة يلتقي فيها مع النص- في أجواء التناقض والصراع الذي يكتنف الحكاية. صراع يتوخى من خلاله البطل أن يعيش الوضعية المنطقية، وليس التناغم مع الزمن فقط، ولكن –وهذا هو الأهم – هو أن يكتب لمرحلته التي لم يعشها، وبالفعل حينما حقق البطل هذه الرغبة عاد إلى توازنه النفسي وتحقق النظام في إطار من اللعب اللغوي. ويمكن أن نفترض قراءة أخرى للعنوان وذلك حين نعتبر "بيضاء مضافا إليه مجرورا لا نعتا، ووفق هذه القراءة تصبح كلمة بيضاء مؤشرا دالا على "الجزائر" التي تلقب بالجزائر البيضاء. وبذلك قد يكون العنوان هو "ليلة الجزائر". لكن إذا كان العنوان "نصا محيطا" prétexte[8] فما هي القرينة التي يمكن أن تربط بين عنواننا هذا والنص؟
      إن تلك الليلة التي تمثل الفضاء الزمني الذي دارت فيه أحداث القصة التي انتهت بانتصار كفة الجزائر، فالبطل كان في بداية القصة/ الليلة مصرا على كتابة قصة غرامية لكنه انتهى بتحبير قصة للجزائر –بالتالي فالليلة من حق الجزائر لا من حق شيء آخر غيرها. لكن مع ذلك فإن تأويلنا الأول يبقى واردا، ففي عودة سريعة لتراثنا الشعري نجد أن الشاعر إذا ما أراد "أن يعبر عن حالة الحزن أحال الأيام سودا، أو أن يعبر عن حالة السرور جعل الليالي بيضا"[9] من ذلك قول ابن زيدون:
حالت لفقدكم أيامنا فغدت      سودا وكانت بكم بيضا ليالينا.
فالليلة هنا وصفت بالبياض لتحقق سعادة الشاعر فيها، بينما الليلة في القصة فقد وصفت بالبياض لأن  البطل لم ينم فيها، وهذا ما يدفعنا إلى  التخمين بأن العنوان "ليلة بيضاء" هو ترجمة حرفية للتعبير الفرنسي "nuit blanche".
قصة كُتبت.. قصة لن تكتب.. قصة ستكتب:
يقوم سدى قصة "ليلة بيضاء" بين لحظتين متوازيتين:
لحظة قصة كُتبت:
       تمثل هذه اللحظة منبعا للعطاء و الإبداع، من جهة باعتبارها فضاء لكتابة القصة الأولى، ومن جهة ثانية هي تَجسد لتحقق الذات: "ألم يكد قلبه يطير من بين ضلوعه وهو يسمعها تذاع على أمواج الأثير؟ كانت حماسية للغاية وكانت نصيبا من حياته"(القصة، ص176). من جهة ثالثة وأخيرة هي عنوان لمرحلة/ تاريخ، فقد كانت القصة "تحمل في عبيرها براكين الثورة وتزرع بذور الأمل. كان يومذاك صبيا ولكنه عايش بطش العدو وطغيان الاستعمار في بلاده الجزائر"(القصة، ص176-177)
        القصة الأولى، إذن، هي قصة ثورة الجزائر وهي مازالت صبية، وتأكيد ذلك أنها كانت "القصة الأولى" وأن البطل "كان يومذاك صبيا". ولكن رغم الصبا يحضر عامل الفعل، فالصبي "أسهم. أجل أسهم بمجهوده – على ضآلته وضعفه- في الثورة" لأنه كتب عن واقعه ودافع عن قضية الجزائر" (القصة، ص177).
     النقطة التي لا ينبغي أن تُغفل هنا هي تعبير جيلالي خلاص عن موقف نقدي في حلة إبداعية، ولعله يفصح عن ذلك صراحة حينما قال: "قصته الأولى كانت موضوعية. عندما انتهت تلاها نشيد وطني محفز كأنه تعبير حقيقي عن جدارتها. أجل كانت رائعة لا لإنها تحفة أدبية فريدة ولكنها عبرت عن الثورة وأسهمت فيها"( القصة، ص177). نحن هنا إزاء موقف يصنف الأدب انطلاقا من مضمونه الواقعي/ الثوري، فليس الشكل إلا قالبا فنيا يقدم المضمون. وليس الأدب من حيث كونه مادة لغوية سوى انزياح للواقع، انزياح يعتمد مبدأ النقد والنمو والتطور لا التوازي والانعكاس، لأن تطابق الإيديولوجي مع الواقع المادي يفضي إلى تهميش حركية التاريخ من جهة وتقزيم أدبية الأدب من جهة ثانية.
لحظة قصة لن تكتب:
         أُثثت هذه اللحظة في الفضاء النصي بمعجم خاص تشكله المفردات الآتية: ثقل- حاول- تأمل- يأس- شفقة- زعزعت- غيظ- أطبق- عصبية- طمس- ضغط- تشنج- يثقب- رنا- الندم- زفر- الأنفاس الثقيلة- موقف حرج- عاجز- تمام العجز- - يخفق- تلاشت- جمود خانق- الفتور- كابوس- آسن.... إن هذا الحقل الدلالي نجد أصباغه تلون معظم البنية النصية، بيد أن هيمنته في الانتشار محدود من ناحية قدرته الأدائية، إذ نجد كل الملفوظات المكونة لهذا الحقل موسومة بعجز حركي (الثقل- المحاولة- الإطباق- العصبية...) بل حتى تلك التي توحي بالتحرر نجدها لا تغدو أن تكون مجرد حركات سلبية. فالزفير الذي قد يدل على الاستعداد للانطلاق نلفاه "زفيرا متواصلا يحمل في عبيره بعضا من تلك الأنفاس الثقيلة..." ( القصة، ص176) الفعل (أطلق) أيضا يدل على الحرية والانفلات لكن القاص أتبعه بجملة تكبل غاياته، فالبطل "استرخت أصابعه شيئا فشيئا. أطلقت سراح القلم في برودة"( القصة، ص176). إنها قصدية واضحة من لدن الكاتب على تقييد الدوال وتوجيهها نحو السكونية واللافعل.
         إن موضوع القيمة –بالمفهوم السيميائي- في هذا النص هو كتابة قصة؛ ليست بطبيعة الحال كالقصة الأولى التي تحقق الذات والتاريخ، بل قصة غرامية، يقول الكاتب: " تعشى وقلبه يخفق إلى قصته الغرامية الجديدة التي كان يزمع أن يحبرها"( القصة، ص176). لكن ما يحول دون تحقيق هذا الموضوع/ objet ظهور عامل معارض/l’opposant ألا وهو الإحساس بالذنب والشعور بالمسؤولية. يصف القاص هذه الحال بقوله: "هاته المرة حدثه شعور جارف بأن الموضوع ليس ملائما. ولأول مرة يحس بمسؤولية أمام عصارة مخه وتحبير قلمه. إن في أذنيه لرنينا غريبا. أصوات تناديه. ترجوه الإغاثة والمساعدة. صرخات رهيبة تدعوه لنجدتها. تشده إلى الأرض. تحذره في تشنج من الصعود إلى الغياهب. محاكم الأجيال تنتصب أمامه. يا الله.. إن قضاتها يطلبونه بالتعويض.. بالقصاص. وغدا طفلا صغيرا لفه الظلام"( القصة، ص176).
        إن هذه القصة التي لم تكتب أعطت النص انفتاحا فنيا حيث جعلت المتلقي- بناء على علامات دالة مقدمة- يقوم بنسج خيوط هذه القصة الناقصة، التي لا يمكن لنا أن نستوحي بنيتها العامة من خلال بعض المقاطع كقول الكاتب مثلا: "أيزهو هو بتصوير أحلامه التافهة الساذجة وأخوه المواطن يرفّض عرقا لكسب لقمة العيش؟ أيحاول هو أن يثير شهوات الناس العارضة... كلا. هذه خيانة"( القصة، ص177) ثم قوله في مقطع آخر –ودائما باعتماد أسلوب الاستفهام الإنكاري: "كيف سولت له نفسه أن يوقظ غرائز الناس بوصف الأدوار الغرامية والنهود الكاعبة و السيقان المدملجة والشفاه الكرزية والإليات الملمومة الراقصة؟ كيف لم يتورع عن تضليل الناس بدل إرشادهم؟"(القصة، ص177).
تتبدى لنا من خلال هذه المقاطع أيضا أن الكاتب ما زال مستمرا في تشييد رؤيته الخاصة للإبداع عن طريق سخط بطله على الإبداع المضلل، الإبداع الذي لا يقترب من هموم الشارع ويأخذ من ثورته قبسا.
لحظة قصة ستكتب:
           تنسج هذه اللحظة باكتساب/acquisition الذات الموضوع القيمة الجديد/le nouveau objet de valeur، ألا وهو كتابة قصة تمتد بجذورها إلى أرض الواقع، يقول الكاتب: "وهناك في ركن البيت رشق ناظراه مكتبه الخشبي فهرع إليه فاركا يديه استعدادا لتحبير قصة «ثورة»"( القصة، ص178).
نلمس في مقاطع هذه اللحظة تغير مكونات الحقل المعجمي حيث نجد ملفوظات من قبيل (تنجلي- ولى- أقبل النهار- مات الديجور- أقبل النور- تدب- حياة جديدة- قتل شبح الضيق- القسمات تنبسط- البشر- الأمل- الفجر- ابتسامة- الإضاءة- ثورة). هذا الحقل، وإن كان هينا كما بالمقارنة مع حجم القصة، فإنه مفعم بالحركة والفعل الإيجابي الذي استطاع أن ينفي البنية السابقة له والتي كان يؤثثها القلق والصراع النفسي. قوة المقطع الأخير تتجلى أيضا في كونه بداية للنهاية، فإذا كانت القصة، تبدأ بالفعل (ثقل) فإنها تنتهي بملفوظ (ثورة) أي إعلان لرفض الخضوع والثبات والتبشير ببداية جديدة لا تعترف بالاستكانة.
       وقد ساهم في تحقيق هذه الطفرة المعرفية لدى البطل عامل مساعد/ adjuvant هو «الأخ المواطن» الذي يدخله القاص حلبة السرد حين يقول: "أيزهو بتصوير أحلامه التافهة الساذجة وأخوه المواطن يرفض عرقا لكسب لقمة العيش؟ أيحاول هو أن يثير شهوات الناس العارضة وأخوه الثائر يستميت دفاعا عن الوطن وذودا عن الكرامة؟"( القصة، ص177). أما البؤرة الحقيقية لعملية التحول/ transformation فتظهر في عملية الاسترجاع التي قام بها القاص لملابسات القصة الأولى، وهذا حينما ربت أحد المجاهدين على كتف الطفل/ البطل "وقال لزميله: تركت طفلا في مثل سنه.. وعقب عليه زميله: الجزائر مثل سنه أيضا. لا بد أن نربيها وندفع عنها الخطر حتى تستعيد قوتها. لم يع يومها هذه الكلمات ولكنه أدرك الآن لماذا بكي وهو يقتعد السدر الشائك مرغما. لقد كان بكاؤه مساهمة في الثورة"( القصة، ص177).
           لقد ارتبطت عملية التحول بعملية الإدراك فحينما أدرك البطل أن فحوى كلام المجاهد هو كون الجزائر محتاجة إلى من يأخذ بيدها أيقن أن وظيفته الحقيقية هي الكتابة لهذا الوطن الجريح الذي يحتاج إلى اليراع كما يحتاج إلى البندقية.
       خلاصة القول، قصة جيلالي خلاص تضمنت ثلاث قصص تربطها علاقات جدلية؛ فالأولى كتبها البطل وهو صغير وكان موضوعها الثورة أما الثانية فهي التي لم ينجح في كتابتها لأن موضوعها كان سيكون انزياحا عن "الموضوعية" في حين أن الثالثة هي التي ستكتب.. إنها عودة إلى المسير المنشود.
           إن القاص جيلالي خلاص لم يخرج عن الخط الفكري الذي ابتدعه غيره من قصاصي وقته، "فالقاص مناضل بالدرجة الأولى ملتزم بقضايا مجتمعه وقد اتبع جل القصاصين الجزائريين هذا النسق في كتاباتهم وبذلك برزت الثورة شعورا أولا ثم عمليا ثانيا ولعل أبرز القصاصين في هذا المضمار الطاهر وطار وخلاص الجيلالي وزهور الونيسي"[10].
أفضية النص: لا نجد في قصة "ليلة بيضاء" إغراقا ذا بال في وصف الأمكنة، فهناك مكان واحد يكتسي قيمته بشكل أساس من البعد الزمني، وعلى هذا الأساس يمكن أن يميز في النص بين شكلين من الفضاء:
الفضاء السلبي: يرتبط نوع الفضاء عند جيلالي خلاص بالحالة النفسية ارتباطا وثيقا. ومن ذلك حين نقرأ: "التفت حواليه كأنه يتحسس أحدا. لم يجد إلا الجدران تحيط به. وارتد إلى واقعه. جسمه ينضح عرقا. جو الغرفة يخنقها"( القصة، ص177).
        لقد صار الفضاء هنا ذا دور فاعل في شحن الشخصية نفسيا. ويزداد هذا التأثير حين يتم الجمع بين خصائص الزمان والمكان في الآن نفسه، وذلك من قبيل قول القاص: "تاه بين طيات الظلام الدامس... وسار جيئة وذهابا في الممر الضيق"( القصة، ص177)، ثم قوله: "عم الظلام أنحاء الغرفة وعاد إلى مرقده وأثقل جسمه بالأغطية. كاد يختنق. أراد أن يصرخ. أن يستنجد رمى بالأغطية وبقي مستلقيا في منامته الرقيقة. زفر، لم تأخذه غفوة، راودته أطياف وخيالات صبيانية ساذجة، قرصته برودة الليل"(القصة، ص177). وعلى امتداد البنية السردية للنص نجد هذا التلازم بين القلق النفسي والظلام/ الليل/ زمن الاستعمار في دلالته العميقة. فهذا الزمن يرتبط بالتيه والبرودة والخوف والاختناق، أو بعبارة أخرى هو فضاء سلبي يحد من الانفراج النفسي للشخصية.
الفضاء الإيجابي: إن عملية تجاوز الزمن السلبي كانت تتم عبر حضور الاندفاع والإرادة لكون الزمن السلبي يجثم بكل قواه على صدر البطل، نلمس ذلك حينما نقرأ:  "وتذكر بغتة أنه نسي إطفاء الضوء هب من فراشه يسب ويلعن وضغط على الزر في تشنج"( القصة، ص177) .ولكن كلما أُطفئ الضوء وساد المكان سكون الظلام إلا وازدادت المعاناة، فقد عاد البطل "إلى صراعه المرير، طال أرقه كأنه أبدي لا يعرف أحدا. لم يستطع المكوث في فراشه. فزع وسار في الدجى يلتمس الباب. صدم كرسيا. لعن الظلام والليل" ( القصة، ص178).
     إن التحول في الزمن سيساهم إذن في تحقيق الراحة النفسية للبطل من جهة، وإعطاء بعد آخر للمكان من جهة ثانية؛ فــــــ"الفجر قد لاح في الأفق. ومن بعيد تراءى له ميناء وهران وقد رست السفن المختلفة بأرصفته... لقد ولّى الليل وأقبل النهار. مات الديجور وأقبل النور وبدأت تدب حياة جديدة في الكون. وكأن ذلك قد قتل شبح الضيق في صدره هو" ( القصة، ص178).
           لقد وقفنا في هذه القصة على متتاليتين زمنيتين متضادتين هما: الليل أو ما يتعلق به، ثم النهار وتجلياته. يحيل الزمن الأول على الاستعمار والصراع النفسي، بينما يعكس الزمن  الثاني نور الحرية والاستقرار النفسي. وكلا الزمنين كثير الحضور في الكتابة السردية الجزائرية، فأدباء الجزائر يمثلون "جزءا رئيسا من جبهة القتال، وأصبح الموضوع الذي تدور حوله جميع أعمالهم هو حرب التحرير ومقاومة المستعمر رفضا للاستغلال والتسلط"[11].
        إن تعامل جيلالي مع الفضاء كان يبشر بتحول نوعي في مسيرة القصة، هذا التحول ستثبت دعائمه مع التسعينات من القرن الماضي، حيث أنه قلما نجد رواية مكانية في هذه الفترة (أي التسعينات)، "فالمكان يمر عرضا، إنه عنصر طارئ غير ثابت، ذلك أن هناك ما يشبه التعتيم على المكان"[12]. بيد إن قصتنا وإن استطاعت تحقيق نوع من هذا التحول فإنها لم تنجح في بلورتها على مستوى الزمن، إذ نجد الزمن الخطي هو المهيمن، على عكس القصة الجديدة التي تزخر بالزمن  النفسي أو الوجودي.
الشخصيات: إن الحديث عن الشخصيات يستوجب من الوقوف عند مصطلحين غالبا ما يطرحان عند المتلقي بعض الالتباس. هما مصطلح "الشخصية" ومصطلح "البطل"، فماذا يقصد بكل واحد منهما؟
      يعرف الدكتور لطيف زيتوني في معجمه الخاص بمصطلحات نقد الرواية بقوله: "الشخصية/ personnage/caracter: هي كل مشارك في أحداث الحكاية، سلبا أو إيجابا، أما من لا يشارك في الحدث فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءا من الوصف. الشخصية عنصر مصنوع، مخترع، ككل عناصر الحكاية، فهي تتكون من مجموع الكلام الذي يصفها، ويصور أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها"[13] أما في تعريفه للبطل فيقول: "البطل في التحليل السيميائي، هو إحدى شخصيتين: ذات فاعلة مستقلة تسعى إلى تغيير العالم من حولها، أو ذات منفعلة يصنع منها العالم كائنا جديدا أو يدمر الوجه البوهيمي فيها"[14].
وعليه فإن إقامة ترادف بين الشخصية الرئيسة والبطل موقف مجانب للصواب، ذلك لكون "الشخصية الرئيسية تكتسب صفاتها من دورها داخل الرواية، أما البطل فيكتسب صفته لا من دوره فقط بل من خصاله أيضا"[15]. واعتمادا على هذا التحديد تزخر القصة ببطل/héros واحد وشخصيات:
1- البطل :وظف جيلالي خلاص نمطين من السرد، أولهما السرد اللاحق/narration ultérieure، ويعد هذا النوع "الأكثر ملاءمة للقصة ولترتيبها الذي لا يقبل التعديل، فعلى حد تعبير رولان بارت فإنه لشدة التركيز على الخصوصية المنطقية للحدث، يصبح هذا الزمن لا يحيل على الماضي المحدد ولكنه يحيل على بعد شبه خارج عن حدود الذاكرة[16]. أما النمط الثاني فهو السرد المتزامن/ narration simutanee "وهو السرد الذي يجري في آن واحد وبدقة مع الحدث المتلفظ به، ويلتقي فيها الزمنان في كل النقاط"[17]، لكن المشترك بين هذين الأسلوبين السرديين في القصة هو أن السارد ليس شخصية ضمن النص بحيث نجده دائما يصف الأحداث من الخارج ويراقب حركة الشخصيات التي يعد البطل أهمها.
          يظهر بطل قصة ليلة بيضاء "شخصية تتقاذفها الانفعالات النفسية، رغبتها الأولى هي الالتحام مع هموم الجماهير الشعبية، لإيمان هذه الشخصية بدورها الاجتماعي. إن بطل قصتنا حسب تصنيف خليل أحمد خليل من نوع "كاتب الإنسان (الكتابة من الجمهور إلى الجمهور)، بلا وسيط آخر سوى حرية الإبداع لأجلهم"[18].
       إن البطل أوبالأحرى العامل/actant ينهض بوظيفة مزدوجة، فهو يحمل عبأ الدور التيماتيكي/thématique الذي يمليه عليه دوره الاجتماعي والثقافي والمتمثل هنا في كونه مثقفا ينافح عن قضيته بالقلم، ومن جهة أخرى يؤدي دورا عامليا داخل التركيب السردي العام وهو هنا دور العامل الذات الذي سعى على امتداد البناء السردي إلى تحقيق كينونته بالحصول على موضوع الذات والمتمثل في كتابة قصة تُشرك صاحبها مع هموم الشعب.
     إن مقاربة شخصيات هذه القصة على قلتها –تكشف لنا أن البطل وإن كان أحد مخلوقات الكاتب الورقية فإنه "كالكاتب ذاته ينتمي إلى التاريخ وإلى الواقع. بل إن امتلاءه بالحياة يتحدد بمقدار اقترابه من تاريخه وواقعه، وقدرته على التعبير عنها فبقدر ابتعاده عن الملامح الخاصة لذلك التاريخ ولهذا الواقع يصبح تخطيطا ذهنيا خاليا من الحياة"[19]
خـــــــــــــــــــــــــــــــــاتمة:
         لا غرو إذا وافقنا أولئك النقاد والمنظرين الذين يلحون على ربط الاتصال بين الأدب والواقع، وحجتنا في ذلك ما أدركناه بعد مقاربات عدة للأدب الجزائري، بشكليه النثري والشعري. فـــ"الأدب الجزائري الذي يكتبه كتاب جزائريون هو أدب واقعي، فيه انعكاس لروح الأمة الجزائرية في عواطفها وارتكاسها تجاه الوجود، وأمانيها وأساطيرها وتقاليدها"[20]. بل وزد على ذلك أن هذا الأدب يمتص حتى تناقضات الأوضاع السوسيوثقافية الجزائرية، فأنت حينما تقرأ الآثار الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية تخال أنها لأحد كبار أدباء الثقافة الفرنسية، وحينما تنكب على ما أبدعته الأقلام العربية هناك تجده في غير منأى عما وصلت إليه الأقلام المشرقية أو المغربية حينما تتخذ من لغة الضاد لسانا لها.
إن صفة الواقعية التي نسبغها على الأدب الجزائري هي تلك "التي تعكس الأشياء والحياة والتجارب الفردية والجماعية في إطار فني، فهو إذن أدب حقيقي كتبه أناس من صميم الشعب عميقو النظرة إلى الوجود"[21].والقصة، باعتبارها شكلا أدبيا متميزا، أدلت بدلوها هي الأخرى في معترك القضايا الجزائرية، ولعل أبرزها النضال الاجتماعي والسياسي، والذي قسمه الذكتور عمر بن قينة إلى ثلاث جبهات:
1- الصراع ضد الاستعمار وأذنابه، وهو الأهم والأكثر ثراء حتى الآن.
2- النضال ضد الاستغلاليين والانتهازيين الذين يتربون في جوانب كل وطن.
3- النضال في خضم القضايا العربية المشتركة[22].
جبهات ثلاث تعكس مدى تفاعل القصة الجزائرية مع القضايا المحلية والقومية، تفاعل ارتفع إلى مستوى النضال الذي يؤمن بقضية ويستميت من أجلها، «فلا خير في شعب أضاع وعيه بماضيه وحاضره ومستقبله».
أخيرا فإن كون القصة الجزائرية بحكم إصرارها على كشف تناقضات الواقع وتفككه "أصبحت تعرض علينا كملحمة للعصر، وهذا الطموح إلى أدب جديد يعبر عن واقع الأرض الجزائرية لم يبرز على الدوام في إنتاج واحد، ولا لدى كاتب بعينه، وإنما تجلى عبر نماذج قصصية عديدة منها: القصة التاريخية، القصة الإتنوغرافية، القصة النفسية، القصة الاجتماعية، والقصة الشعرية"[23].


[1] - نشرت هذه القصة بالعدد 32 من الحياة الثقافية لسنة 1984، الصادرة عن وزارة الشؤون الثقافية بتونس من ص176 إلى ص178.
[2] - "الأجناس الأدبية" جوزيه ساراماجو، ترجمة جواد الرامي، مجلة نوافذ، دورية تعنى بترجمة الأدب العالمي- العدد 23، مارس 2003، النادي الأدبي الثقافي، جدة السعودية، ص63.
[3] - "النقد والحداثة" عبد السلام المسدي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ديسمبر 1983، ص107.
[4] - "الأجناس الأدبية" تزفيتان تودروف، ترجمة جواد الرامي، مجلة نوافذ، العدد الرابع، يونيو 1998، ص54.
[5] - "منطلقات الوعي في القصة المغربية القصيرة" عزالدين التازي، مجلة الحياة الثقافية، تونس، العدد الأول، أكتوبر 1977، ص48.
[6] - "طاحونة الشيء المعتاد" عبد الله القويري، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثالثة، 1980، ص 210.
[7] - "خطاب الكتابة وكتابة الخطاب في رواية مجنون الألم" عبد الرحمن طنكول، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، العدد9، 1987، ص135.
[8] - يقسم جيرار جانيت في كتابة "العتبات" النص إلى: نص رئيسي/texte principale ونص موازي/paratexte ويقسم هذا النوع إلى نص فوقي/Epitexte  (يشمل ما يتعلق بخارج الكتاب: الاستجوابات، الشهادات والتعليقات المرفقة بالنص) ثم نص محيط ويشمل: العنوان- المقدمة- الحواشي- الهوامش- الإهداء)
[9] - تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، البيضاء، الطبعة الثانية، 1986. ص183.
[10] - القصة القصيرة الجزائرية في عهد الاستقلال، مصطفى المدايني، الحياة الثقافية، ع32، 1984، ص291.
[11] - المقاومة في الأدب الجزائري، عبد العزيز شرف، منشورات وزارة الثقافة، دمشق1971، ص57.
[12] - جماليات القصة القصيرة في الأردن- شعرية السرد ومبدأ التذويت، محمد عبد الله، علامات، مجلة ثقافية محكمة، العدد 20س2003، مكناس، ص53.
[13] - معجم مصطلحات نقد الرواية، لطيف زيتوني، دار النهار للنشر، لبنان، الطبعة الأولى 2002، ص113،114.
[14] - المرجع السابق، ص34.
[15] - المرجع السابق، ص35.
[16] - شعرية القص، تزفيتان تودروف، مجلة البيان، تصدر عن رابطة الأدباء في الكويت، العددان 396-397، يوليوز أغسطس 2003، ص232.
[17]- المرجع السابق، ص232.
[18] - مستقبل العلاقة بين المثقف والسلطة، خليل أحمد خليل وعلي الكبسي، سلسلة حوارات لقرن جديد، دار الفكر، سورية ط1، يوليوز 2001، ص58.
[19] - محاولة لفهم البطل في القصص المختارة من \ادبنا القومي الاشتراكي، زينب منتصر، مجلة الأقلام، تصدر عن وزارة الإعلام، بغداد، العدد العاشر، السنة 12، 1977، ص10-11.
[20] - أدباء من الجزائر، إبراهيم الكيلاني، سلسلة إقرأ، ع192 ديسمبر 1958، دار المعارف مصر ص7.
[21] - المرجع السابق، ص11.
[22] - المسار النضالي في القصة الجزائر، عمر بن قينة، مجلة الحياة الثقافية، العدد 32، ص 108.
[23] - المقاومة في الأدب الجزائري، عبد العزيز شرف،منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1971، ص21.

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م