الخميس، 23 أكتوبر 2014

توسلات ../حميد يعقوبي

توسلات ..

حميد يعقوبي


 ******************
عاتبيني ..عاقبيني إن شئت
امنعي عني عبير أنفاسك والهواء
واتركيني تائها مختنقا في تجاويف الفؤاد ...

لازاد من فمك ..ولاماء في سِقاء
أو خذي أظافري لتحفري لي
قبرا عميقا بالبيداء
ثم ارم كلماتي خلف الشمس
أنثريها أشلاء
وامنعي عني صوتك والمطر وريح الشتاء
عذبيني قبل الممات ..
منك خرجت وإليك أعود وفيك البقاء
صيريني قطعا من الثلج
واحجبي عني الحر والضياء
حتى أتحسسك في أحشائي صقيعا
يثلج صهد الشوق ولهيب اللقاء
وإن شئت ..
حرمي عني عشقك أو اغفري لي كل الأخطاء
كما تشائين ليس كما أشاء ...
************************
حميد يعقوبي/القنيطرة/22/10/2014

بَيْنِيَة الذّات بين المرآة والبحر/إدريس زايدي

بَيْنِيَة الذّات بين المرآة والبحر
في ديوان " المرآة والبحـْر "
 للشاعر عبد الله فراجي
    



إدريس زايدي

( أقف أمام المرآة . يعتريني الخوف . أكتشف أن الآخر ليس سواي )
============
لا شك أن ديوان الشاعر عبد الله فراجي يحمل أسئلة وجودية ملحة من خلال اختيار عنوان "المرآة والبحر" . وحيث لا يمكن الإلمام بكل الأسئلة ، لا ينبغي أن ننتظر من الأجوبة أن تكون كافية ، بقدر ما يمنحه الديوان من وجوه للرحلة السندبادية برا وبحرا . فالديوان بالقدر الذي يبدو واضحَ المعالم لغةً وأسلوبا وتصويرا ، فهو يخفي أسراره وعمقه تحت لغة آمنت بأن الشعر لا يكون في ظاهره ، بل ليس الظاهر سوى رؤيةٍ لعاشق يمنح نفسه حق القراءة والنظر كمعبر نحو متاهات التولّـُه في الذات حين يحاصرها صوتُ الصورة ووجه الماء .
في بينية الذات
إن عنوان قراءتنا اخترناه أن يكون مصدراً ب" بينية الذات " ، وشرعية الذات تحضر في الديوان من زاويتين : فأما الأولى حديثُ الذات الشاعرة مع صورتها على المرآة كفضاء محصور. وأما الثانية فرغبة الذات في رؤية ذاتها في الامتداد بحرا . ومن هذا المنطلق تتأسس المفارقة الأساس ، هي صوت الصراع بين المحدد وغير المحدد ،وذلك اعتبارا للذات كأيقونة منفتحةٍ ومتشظيةٍ في الكلمات وبالكلمات ، حيث تنعكس امتداداً يضارع البحر ، فكانت المرآة وكان البحر على طرفي انصهار يشكلان بنية الذات التي تتموقع بينيا ، وتتراءى من خلال فضاءين ، هما وجه المرآة ووجه البحر الذين يخفيان رؤية الشاعر الذاتية ، والتي نبادر بالحكم عليها بالانكسار.
وإذا كانت البنية بمفهومها العلمي تهتم بكل العناصر المشكلة لمنظومة العمل في تفاعلها وتشاكلها ، فإن ما ينبغي الاهتمام به في العمل الأدبي عند شاعرنا ، هو ما يحدث من نقلات بينها ، أي كيف تتسلل بنية نحو أخرى بناء أو هدما لتشكيل نموذج بنائي جديد . فمهما كان البناء متماسكا وقويا فمبدأ الهيمنة يحيل على بنيات صغرى ، قد تكون إحداها بؤرة العمل ، حين يتجه صوبها باقي البنيات دون أن يتساوى الكل مع الكل . وهو ما يستدعي قراءة أعمق للديوان ، تتبع مجمل الاتجاهات الدلالية فيه . ولعل هذا ما تقصده العناوين الكلية والفرعية حين تطلق التسمية بدقة ، إذ يصبح العنوان حاملا لدلالة نصية هي عينه .أي يصبح العنوان نصا قائم الذات من جهة البناء والدلالة ، ويكون مكونا بنيويا أساسا في منظومة البنية العامة للنص كمعنى جنيني وتكويني ، يستهدف تحقيق دلالة مهيمنه ك"موتيف " رمزي دال على رؤيا الشاعر كلا أو جزءاً ، تلك الرؤيا التي لا يمكن البحث عنها إلا بين المرآة والبحر .
صورة الذات في المرآة والبحر
إن عنوان الديوان "المرآة والبحر" ، يستدعي إواليات قرائية حول الخلفية الثقافية لرمزية المكونين الذين جاءا متعاطفين تناظريا ، مما يحيل على التساوي من جهة التعريف والإفراد والدلالة . فالمرآة بحر، والبحر مرآة . وهي المعادلة التي تحققت في الذات كبنية شعرية على مستوى التخييل والتصوير . وحيث لا تنعكس الذات إلا من خلال المحمول الذي تَشَكَّل فيها ثقافيا واجتماعيا ونفسيا ، جاءت الصورة تمويها لغويا يتجاوز مساحة المرآة ،وذلك لتعانق البحر بإيحاءاته وأسئلته عن طبقات الغور فيه .
إن المرآة بهذا المعنى تبدع الصور ، وهي مصدر التأمل ، ففيها يتحقق طموح الكلمة أن تصبح وسيلة للتأمل ، بل تسعى الكلمة إلى أن تكتسب قيمتها الصورية من خلال فعل الارتماء على المرايا لتتعقد الصورة أكثر كلما انثنت لتتحول إلى شظايا وتموجات لغوية تصنع بنياتها المتحركة والمتسارعة ، وهو ما استدعى الشاعر أن يقرن المرآة بالبحر ، لأن هذا الأخير هو التجلي لمواجدَ لم تعمل المرآة سوى بتحريكها . وهذا ما سيحول كل واحد عن فعله الأول إلى الثاني ، فيتحدا في ذات الشاعر. فالمرآة منبع والبحر مصب ، وبينهما تتشكل بنية الذات في تحولها الإشراقي الحالم . رغم ما يستفاد من المعنى الظاهر من انكسار .
إن الذات لا تعدو كونها بناءً رمزيا ، تستمد كينونتها من خارجها . فالشاعر عبد الله فراجي يستوحي من ثنائية المرآة والبحر أسئلة انطولوجية يحاور من خلالها الأمداء ، فيسمي مكوناتِها بلغة ذاتية تختصر الفعل الحضاري كرؤية حالمة للوجود . وعليه تغدو المرايا حسب قول كاستون باشلار: " أدوات كثيرة التحضر ، كثيرة الاستعمال ، كثيرة الأشكال ، هي بكل تأكيد أدواتٌ للحلم من أجل أن تتوافق مع عالم الأحلام "[1]
وليس ترادف المرآة والبحر غير استحضار لعمق الشاعر في الكلماتالمحملة بالمدلولات المحتملة والخلفيات الثقافية التي تفتقر إلى ضرورة التأويل ، لأن طبيعة اللغة كرمز هو تعلقها بالواقع وانفصالها عنه في الآن نفسه ، وهو ما جعل الشاعر يبحث عن تجليات علاقة اللغة بمظاهر الثقافة التي يراها في المرآة كمعادل للواقع الثقافي غير القادر على التعبير عن نفسه بتحويل اللغة إلى كلام ، حيث يكون الاستعمال ترجمة لحقيقة الفعل عند الإنسان. وهذا الأمر سيجعل من بنية الذات موضع البوح الشعري ، تسائل وتسأل عن الوعي الشقي لدى الشاعر، على غرار الشاعر الفرنسي بودلير الذي عانقمرآته في قصيدة " الإنسان والبحر " من ديوانه "أزهار الشر" بقوله :
إنسان حر ، دوما تحب البحر
البحر مرآتك ، تتأمل روحك
تسير كموج دون انتهاء
وفكرُك غورٌ ليس أقلَّ مرارةً
فيُعجبك أن تَسْبح في صورتك
تُـــقبلها بعينيك واليدين
فالمرآة تلعب دورا كبيرا في تحقيق التوازن ، حيث تصبح بؤرة لشبكة من الصور والموضوعات ، وهي – المرآة – قد ارتبطت على مرِّ الزمن بثقافة الماء والبحر ، فهي البريق واللمعان أشبه بالسراب . والماء بهذا المعنى يشبه الأحلام ويستدعيها بشكل قوي ، ما دام القاسم هو ذلك الانعكاس الوهمي بالشيء .هكذا تتجاوز المرآة أن تعكس صورة الإنسان ، بل يصبح الإنسان هو نفسه الصورة المجازية للأشياء بل لكل محيطه ، إنها عملية الرؤيا الشعرية التي لا تتحدد بالأشياء ، بل بظلالها . وعليه يكون الشاعر صوتا للمرآة والبحر معا . بل صورة لكل ما يعيشه حبا وفكرا وتاريخا وثقافة، كرمزية للوجود الذي يسكنه . ومن هنا تعلق الشعراء كما شاعرنا عبد الله فراجي بالماء كعنصر للحياة ، خاصة وأن وجهه البحري تحول إلى مرآة مستفزة لأسئلة الذات عن بنيتها ، وأمست الصورة وجها يترجم العلاقة مع هذه الحياة ، أشبه بعلاقة شرعية من حيث كون كل إنسان يتآلف طبيعيا مع نمط من الرؤيا لوجود يتنازعه الجبر والاختيار .
إن لفظة المرآة أمست مفهوما أساسا في الشعر العربي ، وذلك مما يختزله من دلالة رمزية ناتجة عن توظيفه كتقنية ، وهي التقنية التي لم يُولِها النقد العربي الحديث عناية قدر الاهتمام بالقناع وأنواع الرمز ، رغم الحمولة الدلالية التي اكتسبتها المرآة منذ القدم . فالبحر صورة رمزية لنفسية الإنسان العربي ، كما جاء في قول امريء القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله *** علــــي بأنواع الهمـــوم ليبتـــلي
ونفس الحال عبر عنه الشعراء المحدثون . فهذا الشاعر علي جعفر العلاق[2] ، يقول :
أرى ماء المرايا مائجاً فينا
استحلنا كلُّنا الآن مراياها
اشتعلنا في لظى الماءِ
تَرى فينا ندى فضّتها.
وفي هذا الصدد يرى جابر عصفور أن استخدام الأدب للمرآة كانعكاس يؤكد " ثبات الأدب إزاء موضوعه ، ومن ثم ثبات صورة المرآة إزاء ما تعكسه " [3]. فبهذا المعنى فإن الذات تعكس موضوع إدراكها وتحاكيه بالطريقة التي يماثل فيها العمل الأدبي صور المرآة ، ويتضح ذلك عند الشاعرعبد الله فراجي وهو يتحدث في المقطع الثالث ( في عمق الذات) من القصيدة التي تحمل عنوان الديوان (المرآة والبحر ) ، يقول وبطريقة توصيفية سردية لأناه المعذبة :
وأنا في تلك اللحظة كنت صبيا
أخطو نحو سواد اللجة والبحر
تشرق أنفاسي من ظلمات البحر
إلى أن يقول :
وعلى جسدي ...
اَلمرآة انتصبتْ
عكست عنف الأبعاد المحترقة
كانوا خلف المرآة .
على جسدي ...
المرآة انكسرتْ
سقطتْ أشلاء في الوطنْ..
شنقوني ولا من يدري .
إن الشاعر عبد الله فراجي في ديوانه يستعمل المرآة كتقنية يستخدِمها بطرق متعددة ومتنوعة ، فتارة تعيد المرآة تشكيل الكون وتصوره من خلال ما تحيل عليه من موضوعات وتارة تأتي كمرآة لتصوير الجزئيات وأخرى تحيل على الصور المعنوية في تعددها الانشطاري . وتصبح الذات تبعا لها بؤرة التشابكات ، لدرجة أمست الدلالة زئبقية متحولة ، لكن بوعي وإدراك شعريين لموقعها. فهي تارة مطابقة للمرآة من حيث المكانية حيث يقول : (وعلى جسدي .../ اَلمرآة انتصبتْ ) وتارة تتوارى خلف المرآة لتكون صورة للآخر في قوله : (كانوا خلف المرآة .../ على جسدي ...) وأخرى تتحول إلى جزئيات تعكس الوطن ، يقول (المرآة انكسرتْ .../ سقطتْ أشلاء في الوطنْ.. ) وبين هذا وذاك تتشكل الذات في الوطن ومنه كما تتعلق بالمجتمع ، على سبيل التشظي كحالة وجدانية انكسارية أمام شبح مجهول . ويتضح ذلك من خلال نسْبِ فعلِ الكينونة إلى واو للجماعة (كانوا ) . فالشاعر لا يمكن أن يكون إلا ذلك الذي خانته المرآة التي لم تعكس صورته ، بل مارست عليه عنفها التغييبي الإقصائي ليجد نفسه في قبضة الجماعة التي مارست قسوتها ، بإلغاء صورته ، وبالتالي تصنع مرآتها الخاصة من الخلف . ويتحمل الشاعر عبء تحقيق رؤياه حين يجعل من المرآة قوة تثور طوعا في وجه انكسارها لتتحقق كلا منسجما من خلال تحولها إلى أشلاء في الوطن المكان والجسد ، وهذا ما يفسر علميا أن كل تحول هو إحالة على بنية أخرى جديدة .
الذات مرآة ثالثة
إن الشاعر عبد الله فراجي بين صورتي المرآة والبحر يصنع مرآة ثالثة في ذاته ، تعكس تجربة الاغتراب في مستويات عدة ، لعل أبرزها الموقف تجاه قيم الخيانة والغدر التاريخيين .
وبنَفَس درامي يستحضر تفاصيل الأشياء في قصيدة ( عندما أقرأ التفاصيل والمتناقضات ) . وهي مجموعة من اللوحات لا تتضمن لفظتي المرآة والبحر ، لكن المقاطع الخمس عشرة تحولت إلى مرآة يقرأ فيها الشاعر ذاته من خلال صورة الآخر المتسلط والمتجبر،يقول[4]:
عندما أقرأ التفاصيل التي أرقتني...
في معابد المدن العتيقة ..
وأرفع رأسي مخترقا لون السحابِ...
أتحلل كينونة هجينةً ..
في ساحة كبلتها الحجارة ..
وإذا انهالوا فوق رأسي كالجبال ْ
أموت منتشيا بالمرارة .
وبهذا المعني تتحول الذات نفسها إلى مرآة ، تحمل أشكالا من الصور والأصوات ، وتواصل الإبحار في قضايا وطنية وقومية عربية .
ورغم أن البحر كلفظة في الديوان جاء قليلا بالمقارنة مع المرآة ، فإن حضوره في قصيدته الأولى بل في جل شعره من خلالما يستدعيه كلمة " السندباد " كملازم أسطوري ، أكسب صورة البحر أبعادا انزاحت عن معناها الحقيقي لتحمل دلالات ورؤی جديدة ، وأحياناً تصبح رموزاً قوية في المنجز الشعري كله ، بحيث تدل علی حالات الاغتراب المتنوعة ، فتجاوزت دلالة الترميز للحياة والخصب ، لتدلّ علی الحالة النفسية المنكسرة لمشاعر الذات وشعورها باليأس وفقدان الأمل في حقيقة الأشياء. وهو مقصود من الشاعر عبد الله فراجي حين جعل من العنوان نصا يوجه القاريء للغوص في عوالم السقوط والانكسار من حيث الأبعاد السياسية والوطنية والقومية على غرار شعراء الحداثة في المغرب . فالبحر بالقدر الذي يحمل دلالة ترمز للخوف والغموض والرحلة في طريق الحياة ، وارتياد المجهول ، فإنه عند الشاعر وسيلة لمحاكمة الواقع غير المحدد المعالم . أي يستعير صورة البحر كرد فعلي تجاه قيم الواقع المنحطة ، وإعطاء الذات بنية قادرة على المقاومة . وهنا يتوحد الشاعر مع البحر ليؤكد من خلاله صورة الواقع الباعثة على التأمل .إنها ممارسة لفعل التواصل عبر لغة الجمال التي تكونت في الذات كرمز لغوي والبحر كرمز طبيعي ، وبين المرآة والبحر كان صوت الشاعر مرآة ثالثة .
إن البحر عند شاعرنا يعكس الطموح إلى تجاوز الواقع نحو عالم أكثر اتساعا ورحابة ، حيث تُحقق الذات كينونتَها في بُعديها الفردي والجماعي ، وهي نظرة ثنائية أكد عليها عز الدين إسماعيل بقوله :" عادية على المستوى الجمعي للإنسان ، لأن قصة الإنسانية إجمالاً هي قصة المغامرة في سبيل كشف المجهول ، وهي غير عادية على المستوى الفردي ، لأننا ألفنا الفرد الذي تتلخص فيه التجربة الإنسانية ... "[5] . فصورة الأنا / الذات السندبادية ، تحضر في الديوان بشكل مكثف ومتوال ، فتارة كصوت موجه لخارجها ، يقول الشاعر [6]:
رفعتُ راحتَيَّ كالمجنون أقطف الحروف
وأجمع المتلاشيات من الورق
أبني الحكاية والخيالْ
وتارة تستبطن الفعل الخارجي مستعينة بالمرآة ، حيث يقول [7]:
في صورة هذا الكون
كسروا الوردة في ظلي ،
واقتحموا ما في عمقي ،
وأعادوا تشكيل المرآة ..
تركوها غائرة ..
في درج من حجرْ ..
وبينهما تتوزع رؤيا الشاعر لتُبَنْيِنَ الذات في مواجهة أهوال رحلته السندبادية ، حيث يبحث عن لغة الخطاب الشعري المتعالي على لغة الخيانة والغدر في الواقع الذي يحمل رؤيا وجودية كوعي بانكسار القيم ، إلى جانب البحث عن جذوة نورانية تختصر الرحلة اللامتناهية . وعليه يجعل من الماء لفظا مرادفا للفظة البحر، فهو مادة شفافة التي تملك قدرة التطهير والكشف عن رغبة الذات في التحول عما علق بها من خداع ، كما تبين الأسطر التالية من مقطع ( الممنوع من الصرف) [8]:
يا هذا الشبقي المخدوع ،
يا هذا الحامل كأسا يشربها سمّاً ،
يا هذا المتصلب في رائحة الخوف ...
وقميصك مبلول عن آخره ،
مثقوب من طرفيه ْ.
إلى أن يقول :
يا هذا المخدوع المتباهي،
هل تستجمع قاربك البحري وتبحر ..
من أبراج الآلهة
فمتى ترحل ..؟
ومتى يأتيك حمامة نوح من زخم الطوفان ؟
إن صوت الشاعر عبد الله فراجي بصيغة النداء ، هو صوت موجه لمخاطب يشير إليه ب(هذا) . والمشار إليه هنا معلوم بالإشارة ، مجهول لأنه بدون تسمية . وحيث أداة النداء (يا) للبعيد ، دل الخطاب على معاناة الذات بين صورة الثبات (هنا) وصورة السفر(هناك) . فالمرآة الذاتية تنزع نحو الامتداد والهجرة نحو آفاق أرحب ، يقول :
أنا هنا ،
كالسندباد مهاجر ..
بلا سلاح في خطاي
لكن هجرة الشاعر لم تكن سوى سفر في الذات التي لم تنجح في أن تتحول إلاَّ نحو نفسها ، فيصبح صوت الأنا مشروخا في يد الآخر الذي يمارس عليه فعل الخيانة والتدمير القسري ،ويحوله إلى قربان هديةً غير مستحقة للآلهة في واقع مشحون بالهوان ، يقول [9]:
وصولتها تُقدّمني ..
قربان عيدٍ ..
في براكين الهوانْ .
إن الشاعر بين المرآة والبحر يتحول هو نفسه إلى مرآة ، حيث يعكس أفكاره ومواقفه وهو مؤمن بدوره الفكري ، فيحاول ترجمته وتصويره كانعكاس لوعيه الشقي ، في انزياح لغوي يعيد بنية الذات كشفا للاوعي الراكد فيها . ويعيد بناء المسافات الزمانية والمكانية فيطفو العقل الباطن ليعبر عن قضايا الذات الكبرى ، المتمثلة في قضية فلسطين والعراق في قصيدته ( مديح لشقائق النعمان) يقول [10]:
من جدار الخيانة ،
من سجف السحب ،
من مراكب تجمعنا في الرياح ..
إلى أن يقول [11]رافعا من قدر الشهداء :
أستشرف للشهداء قوافلهم
ثم يعود إلى صورة الذات يفضح حالها ، حيث يقول [12]:
فأنا لا أملك سرا أخفيه
بل أخجل من علن قد يفضحني
وفي هذا السياق تتحد رؤيا الشاعر البنائية ، حيث يسقط قناع المرآة ليكشف عن لعبة التجلي والخفاء بلغة كمال أبو ديب ، فهو لا يملك سرا بل يملك الخجل والخوف كقدرة ليس سهلا امتلاكها رغم ما فيهما من سلبية الدلالة . وحين نتأمل السطرين ، نرى أن المعاناة تأتي من خارج الذات ،أي من الآخر الذي يملك سلطة العقاب والفضح . فالشاعر يخشى التهمة ، مما يحول الجهر والوضوح إلى غموض وسر . وقد عبر عن ذلك بالضد ، وهو ما يجعل من بنية الذات في تحول مستمر . لأنها في كل مرة تأخذ لبوسا مغايرا لا يمكن الكشف عنه إلا في ما يتيحه السياقات من تأويل لباقي الأبنية السياقية والنصية والدلالية . فمعنى الكلمة كما يقول عبد السلام المسدي لا ينكشف إلا في حقلها الدلالي ، ضمن " ما تمثله کل الکلمات التي لها علاقة ما بتلك الكلمة سواء کانت علاقة ترادف أم تقابل الجزء من الکل أو الکل من الجزء " [13] .
إن المغامرة الفنية عند الشاعر عبد الله فراجي تحمل طابع مغامرات السندباد .فالشعر رحلة كشفية عن ماهية الوجود ، وبحثا عن سبل التحرر من أسر التخلف والقهر والانحطاط . هو بحث عن القيم الإيجابية في عالم منحط ، مستعينا بتقنية المرآة ليرى من خلالها كيف تتكون بنية صورتها ضمن باقي العناصر المكونة لرؤياه ، والتي عانقت عالم البحر تطهيرا عبر الرحلة والبحث عن الأفضل ، كما جاء في قوله تعالى: ( ربُّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيمَــاً ) [14]. وقد عبر عن ذلك الشاعر مستحضرا قصة الطوفان قائلا:
ومتى تأتيك حمامة نوح من زخم الطوفان
بغصن،
من وحل النهرين بماء.
فقد استعمل الشاعر استفهاما انكاريا ، ينكر في بنية اللاواعي للذات أنْ تجيءَ حمامة نوح بغصن . لأن الطوفان لا يشبه الطوفان الذي يعبر عنه ، فهو من وحل النهرين في إشارة إلى دجلة والفرات كرمزين للحضارة العربية الموؤودة . هكذا يستحضر الشاعر قصة الطوفان بصورة إيجابية يجعل من وحل النهرين مكانا لنبع الماء حيث الخصب بعد إبعاد كل عناصر اليباب المتمثلة في إبعاد الظالمين ، كما في قوله تعالى( وَقِـيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِين)[15] . فبالقدر الذي تحضر المرجعية الدينية ، تحضر ثقافة الشاعر الفلسفية والشعرية اللتين أسعفتاه على استدعاء رمزية عشتار[16] وجلجامش [17]وبابل [18] والريح[19] ، وكلها وردت في قصيدة " تحولات" [20] ، لتؤسس صورة المفارقة الذاتية لدى الشاعر من خلال تبني رؤية جلجامش الذي لم يستسلم لفتنة عشتار اللعوب لإيمانه بأن ظاهر الأشياء لا يعكس دواخلها ، حيث يقول [21] :
فتحت أبواب أنوثتها للأغراب
صاحت من شدة لوعتها ..
ثم احتضرتْ .
وأمام هذه الصورة التي تعكس السقوط ، يبحث الشاعر عن الصورة الإيجابية ،يقول [22]:
جلجامش ..
عاشق عشتار ..
عاشق بغداد ..
حبك يعصف كالطوفان ..
وهنا يستعين الشاعر بالمرجعية التاريخية التي تحكي عن بلاد الرافدين وجلال النهرين ، إذ يتحول التاريخ إلى قوة مرآوية ، تعكس صورة الذات القلقة والتي تحاول أن تجد مستقرا لرؤيا شعرية ، تبحث عن شيء يمنحها القدرة على الوجود. فتتحول الأنا إلى صيحات تعلو تارة وتخبو أخرى ، يقول[23] :
قاف معقوفةْ ..
صحراء وغبارْ ..
سقطتْ في الرملَة والأنبارْ
جلجامش .. عاشق عشتار ،
يمتد ويخترق اللعنات ،
كالمارد يعلو ..
فوق صقور الهكسوسِ ..
وزبانية الرومْ
وأباطرة الفرس ..
إن الشاعر قد شحن السياق الشعري بشحنة شعورية ، استطاعت أن تجعل من المرآة والبحر في النص ،رمزين يكتسيان دلالة وظيفية تشير الی ماهية الوجود . وبُناء على هذا الکشف الدلالي ، ابتعد عن الأبعاد المعروفة ليجعل من المرآة خطابا شعريا ذاتيا ومن البحر امتداداتها الحُلْمِية ، كما يقول يونغ نقلا عن ريتا عوض ، فالبحر" يرمز الی اللاوعي الذي تتحشد فيه آمال الإنسان وأحلامه ورغباته عارية عذراء لم تعرف قناعاً " [24]
فالشاعر يطهر ذاته ، ويعطيها شحنة قوية وجريئة ، يخاصم مرآته وجها لوجه مع صوته الداخلي ، هو صوت الأنا المشروخة بالطعنات . والنص الأخير في الديوان [25] ، خير تعبير عن رفض السقوط في شرك الواقع العربي الموبوء . فهو رغم الأيادي الآثمة التي تشكل بنية المجتمع العربي باسم الجبروت ، لا يستسلم ، يقول[26] :
يا هذا الصخر العاتي ،
تسرقني من ذاتي
تمنعني من نحت الكلمات ..
إلى أن يقول [27]:
لكن أرفض أن أسقط منهارا ،
وأمزق لائحة الترتيبات ..
أرفض نور الشمس إذا ذبلت أوراقي ..
وأطهر ذاتي ..
بالحب وبالكلماتِ.
والشاعر في موقف الرفض يطفئ لمعان المرآة وبريق البحر ، حين يقرن بين ذبول الأوراق ونور الشمس ، كدليل على اختلال التوازن في بينة الأشياء . وهو بذلك يحلم بإعادة الأسماء التي يكشفها نور الشمس ويعريها ... وفي ذلك تشكيل لرؤيا الذات بين الانكسار والأمل على غرار الشعراء المحدثين ، مع تنوع أعطى الديوان سعة بحجم البحر بإيحاءاته الرمزية لعلاقة الذات بالواقع العربي الجريح .
تلك كانت مرآة الشاعر عبد الله فراجي والتي لا يمكن سبر أغوارها إلا لمن عانق فيها البحر عبر قراءة وتأمل كبيرين للديوان الذي استضاف تجربةً ذاتيةً لشاعر آسرته شعرية المرآة والبحر فجاء صوتا مرآويا ثالثا هوعنوانُ بنية الديوانِ العميقة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إدريس زايدي ــــ
الهوامش :
ــــــــــــ
[1] كاستون باشلار، الماء والأحلام " ص32
[2]- علي جعفر العلاق ، ديوان " أيام آدم " قصيدة ( أغنية المرآة ) ص5
[3]- جابر عصفور ، المرايا المتجاورة ، ص 37.
[4]- الديوان ، ص 38
[5] - عز الدين اسماعيل ، ( 1972 م): الشعر العربي المعاصر / قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ، ط 2 ، بيروت ، دار الثقافة 1972 ص 203.
[6]- الديوان ، حروف تنبت زهرا ، ص 1 .
[7]- الديوان ، صور من قطف الريح ، ص 70 .
[8]- الديوان ، "تحولات " ص 20 -22
[9] - الديوان ، ( عابر في خطوها ) ص 69
[10]- الديوان ،( مديح لشقائق النعمان) ص 15
[11]- النص نفسه ص 16
[12]- النص نفسه ص 17
[13]- المسدی، عبدالسلام الأسلوبية والأسلوب، نحو بديل ألسني في نقد الأدب، تونس، الدار العربية للکتاب. (1977م)ص150
[14]- سورة الإسراء: الآية ، 66
[15]- سورة هود ، الآية 44
[16]- الديوان ، ص 19 و 25
[17]- الديوان ، ص 24
[18]- الديوان ، ص24
[19]- الديوان ،ص19
[20]- الديوان ، ص 19
[21] - الديوان ،ص 19
[22]- الديوان ، ص 28
[23]- الديوان ، ص 27
[24]- ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث ، المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت 1978 ، ص 103.
[25] - الديوان ، قصيدة " تطهير الذات " ص 81
[26]- الديوان ،ص 81
[27] - الديوان ، ص 82

صورة الأب بين بوعلام دخيسي في "الحرف الثامن "ومحمد علي الرباوي في "مكابدات السندباد المغربي"/د.الهام الصنابي

صورة الأب بين بوعلام دخيسي في "الحرف الثامن "
 
ومحمد علي الرباوي في "مكابدات السندباد المغربي"/
 
 
د:الهام الصنابي
 
 
1-الحرف الثامن: إضاءة على العتبة
يعتبر العنوان بمثابة النص الموازي الذي يضيء الكثير من جوانب المتن، ويعتبره جيرار جينيت
 "مجموع العلامات اللسانية التي يمكن أن تدرج على رأس نص لتحدده، وتدل على محتواه وتغري
الجمهور بقراءته"عتبات النص: المفهوم والموقعية والوظائف لمصطفى سلوي، منشورات كلية الآداب
 والعلوم الانسانية، رقم 72، سلسلة بحوث ودراسات رقم 22، 2003، ص:162 من ثمة ندرك أن علاقة
لغوية ونفسية تربط العنوان بالمؤلف، والمؤلف بالقارئ، والقارئ بالعنوان، فالعلاقة إذا متعددة
الأبعاد والمستويات حسب العناصر المكونة للعملية الإبداعية، وإذا نحن وقفنا عن "الحرف الثامن"
 للشاعر بوعلام دخيسي، نجد أنه مركب اسمي يكثف العديد من الدلالات، فالحرف جاء خاليا من التوصيف،
 مما يجعل المتلقي في حيرة من أمره، أهو الحرف الهجائي، أم الموسيقي،؟ فيأتي مُعين الأيقونة ليدلنا
على الطريق الذي يمكن أن يكون صحيحا وإن بنسبة ما، هذا إن لم يكن هناك إيهام مقصود من الشاعر،
فوجود الجيثارة تحيل إلى الحرف الموسيقي، أما الثامن فهو تمييز العدد، والسلم الموسيقي يتكون من
 سبعة أحرف موسيقية، هي : دو- ري- مي – فا- صو- لا- سي، فأين الحرف الثامن؟؟
يجيبنا عالم الموسيقى أن الحرف الثامن هو نفسه الحرف الذي تبدأ به السلم الموسيقي، بمعني هو حرف
"دو" وهو ما يصطلح عليه ب"الجواب"، ليتم إقفال الجملة الموسيقية، فنقول:
 دو- ري- مي – فا- صو- لا- سي، دو، فيكون هو مبتدأ الجملة الموسيقية ومنتهاها،
ولكن هذا كله لن يخفي عنا حقيقة ثابتة: فإذا عدنا إلى عالم الأحرف الهجائية التي صنفت حسب التشابه،
فسنجد الحرف الثامن هو "الدال"، وسبب عودتنا إلى هذه الأحرف هي قصيدة الشاعر: ا-ب-ج-د، التي
تعرض فيها للحديث عن الحروف الهجائية، وعند وصوله إلى توصيف حرف الدال يقول:
اخل بها وتمعن في خانة خد الخاء
تأخذ درسا من دال
يغنيك عن الدون
وكل دنية،   ص: , 17
فنلاحظ إذا، توافق الحرف الثامن في عالم الموسيقى مع نفس العدد من الأحرف الهجائية، وان كان هناك
إيهام أيقوني بتخصيص الحرف وعدده على الإيقاع، وهنا أشير أيضا إلى أن العدد يحمل دلالاته الخاصة
في الثقافة الإسلامية، فالعدد ثمانية مرتبط بحملة العرش كما هو وارد في سورة البقرة يقول تعالى:
"ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية"،
فبالثمانية يكتمل حمل العرش، وبالثمانية تكتمل الجملة الموسيقية، وبالثامن تأخذ درسا في الحياة تغنيك
جذى كل سفيه وجبس، 
2-تجليات الحرف الثامن في قصيدة "عد أبي"
انطلاقا مما سبق نستنتج اتفاق الحرف الموسيقي والحرف الهجائي: "الدال" دو" وهو من الأحرف
 الشديدة المجهورة، التي تكررت في قصيدة عد "أبي" بشكل لافت للنظر،
فعلى مستوى الحرف تكرر في القصيدة: 12 مرة ، من أصل 26 سطر شعري، أما على مستوى الكلم،
فقد تكرر في فعل "عُد" ثماني مرات ، فيطفو العدد ثمانية مرة أخرى، كما تكرر الحرف في كلمات
أخرى مثل: دون – الأسود- دعاك- عدني، هذا التكرار له وظيفة نفسية عميقة مرتبطة بنفسية الشاعر
 التي تريد أن تجهر بمكنوناتها اتجاه هذا الأب الذي يغيب عن الأنظار لفترات طوال، ليستقر أخيرا
 غيابُه ويصبح أبديا،
3-صورة الأب في قصيدة "عد ابي" لبوعلام دخيسي
إن الحديث عن "الأب" عموما هو تجل للعديد من الصور المتداخلة والمتنافرة أحيانا بحكم الوضعية
الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تتخذها هذه الشخصية الواحدة المتعددة، فهي واحدة في شكلها
ولكنها متعددة في ممارساتها حسب المقام، فهو السلطة أحيانا وهو الصاحب أحيانا وهو الناصح أيضا،
،وهو المناضل بالمفهوم السياسي في بعض التجارب الشعرية العربية كما هو الأمر عند محمود درويش
 مثلا، وهو المناضل بالمفهوم الاجتماعي الذي لا يدخر جهدا في تامين الحياة الكريمة لأبنائه وأسرته،
ومن ثم يكون الشهيد في نظر الابن البار ان هو فارق الحياة، يقول مثلا درويش في قصيدة "ثلاث صور"
كان أبي
كعهده، محمّلا متاعبا
يطارد الرغيف أينما مضى.. لأجله.. يصارع الثعالبا
والأمر نفسه نجده عند صلاح عبد الصبور عنوانها "أبي" الذي جاء نعي أبيه ذات صباح، إذ يصف لنا
 هول تلقي الخبر وسط جو مشحون بالألم والدهشة:
 ... وأتى نعيُ أبي هذا الصّباحْ
نام في الميدانِ مشجوجَ الجَبينْ
حولَهُ الذؤبان تعوي والرياحُ
 إذن نلاحظ إن القصائد تتفق كلها من حيث العنوان البارز: "أبي"
نرجع إلى دخيسي "عد أبي" أقف عند عنوانها، الذي يؤسس لعلاقة أسرية تربط بن "الابن" الشاعر"
وبين "الأب" ولنقف عند العنوان الذي جاء بصيغة الأمر "عد" موجهة إلى "أبي" أب الشاعر، فالمعنى
من الأمر هنا إذن خرج عن الحقيقة على اعتبار أنه ليس أمرا يستلزم التنفيذ وإنما هو آمر يحمل
 في طياته الاستعطاف والتوسل والرجاء، وليس بينها وبين "آبي" أداة النداء "يا" التي تم حذفها لتبين
لنا درجة القرب والعلاقة العاطفية التي تربط الابن بالأب، وحذف الأداة يحيلنا إلى الآية القرآنية:
 وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" سورة البقرة 186،
 فحذف جملة "قل" في الآية الكريمة دليل على درجة القرب بين الطرفين،
يستهل الشاعر قصيدته بسيل عارم من الأسئلة التي خرجت عن معناها الحقيقي، كما هو شأن أسلوب الأمر
 في العنوان، وحملت معاني الدهشة والاستغراب: فقد تكررت "كيف" ثلاث مرات، فإن الذي يهوي
حسب المنطق هي الأوراق، فما عهدنا سقوط الجذع المتجذر في أعماق الأرض، وعهدنا اختفاء
النجوم والكواكب بظهور الشمس، وما عهدنا اختفاء الشمس هربا من نور النجوم، فالتساؤل هنا هو خلخلة
 لكل المفاهيم السائدة في المجتمع، ولكل المكتسبات المعرفية التي تبدو ظاهرة ومسلم بها، لكن غياب الأب
 جعلت الشاعر يشكك في مصداقيتها ليكون السؤال الذي حيره"
كيف لي أن ارتقي
اشفي غليلي من محياك الذي
لم اصحبه في السفرْ؟ ص:41
فعن أي سفر يتحدث الشاعر، أتراه سفر العودة أم سفر بلا رجوع، سفر أبدي أزلي؟
يسعى الشاعر من خلال هذه القصيدة إلى التعبير عن بعض من اضطرابات النفس جراء غياب الأب،
 حيث يتوسله عدم الاختباء، ويرجوه البقاء ويقينه أن في الغياب حضور،
"وتراني يا ابي,, لي يقين"43
ومن هذا المنطلق فإن الصورة التي يقدمها بوعلام في هذه القصيدة للأب هي بعيدة تماما عن صورة
 الأب السلطوي المتجبر الذي يحكم قبضته الحديدية على البيت وأهله، إنما هي علاقة حب وارف وعطاء
 جميل،  وهو ما يعبر عنه بقوله":
 عد يا حبيبي 42
فالابن – الشاعر يحترق ألما على فراق الأب، الحبيب، وصوته ينفجر في هذه القصيدة في ظل غياب
صوت الأب، الغائب الحاضر، ولعل في لعبة الحضور والغياب هذه جدلية واضحة المعالم، تبرز
من خلال حضور الإبن-الشاعر باعتباره على قيد الحياة، وغياب صوت الأب "الحبيب"، الذي غاب
عن هذه الحياة ، إذن العلاقة هي علاقة حضور- حياة  وغياب –موت،
وفي يقينه اللاعودة، لذا فهو يرجو الانضمام إلى عالم الأب الغائب عله يحظى ولو بضيافة مؤقتة ليشفي
غليله من محيا الأب،
عدني
ضيفا هناك ص: 43
4-الأب بين دخيسي في الحرف الثامن والرباوي في من مكابدات السندباد المغربي:
وأنا أقرا هذه القصيدة وجدت نفسي أعود بذاكرتي الشعرية إلى تجربة الشاعر محمد على الرباوي من
 خلال مجموعة من القصائد التي جسدت تجربة الأب المهاجر-الغائب، والتي اجتمعت كلها في ديوان
 –القصيدة من مكابدات السندباد المغربي، التي ترصد فصولا من مكابدات الأب الغائب مكانا الحاضر
روحا ومعنى، وهذه القصيدة – الديوان هي نفسها تكثيفا لقصيدتين في ديوان الأعشاب البرية هما:
 ليلتان من ليالي السندباد، والسندباد في بلاد الألزاس، التي أهداها إلى أبيه في أرض الغربة، والتي
 يعرض من خلالهما تجربة الأب وبعض تفاصيل الغربة المكانية والروحية التي عايشها إن في
أرض الروم. الغربة وان بعد عودته إلى ارض الوطن،
فقصيدة "عد أبي" و"من مكابدات السندباد المغربي" تتفقان في مجموعة من العناصر من بينها:
أولا على مستوى المضمون: الاتفاق من حيث الشخصية المتحدث عنها وهي شخصية الأب،
 باعتباره قيمة إنسانية وأسرية، لا يستقيم عود الحياة إلا بوجوده، فهو الجذع والركيزة، فهو عند دخيسي:
جذع الشجر,,,؟ 41
وهو عند الرباوي
" دفء المروج
 وسحر الربيع  27
ثانيا: الاتفاق من حيث الغرض: القصيدتان تندرجان في فن الرثاء
ثالثا:الأمل في اللقاء: نظر لعدم تحقق الشبع من هذه الشخصية التي كانت ضاربة في عباب الصحاري
 والبحار، فإن كلا من دخيسي والرباوي يأملان في إعادة تحقق اللقاء:
دخيسي يقول:
 عد أبي
باغت عيوني لحظة
واسق النظر 42
وإما الرباوي فيقول:
لعلي ألقاه هناك
وحيدا يسمع في قلق مبتل نشرات الأخبار 30
 
رابعا: الحديث عن مكابدة الأب لمتاعب الدنيا من أجل تحقيق الحياة الكريمة للأبناء وكثرة أسفاره
في مقابل الفراغ الذي خلفه هذا السفر في شخصية الإبن:
يقول دخيسي:
 كيف لي أن ارتقي
اشفي غليلي من محياك الذي
لم أصحبه في السفر41
أما الرباوي فيقول:
 أبي مذ خلقنا ما رأيناه إلا ضاربا
كبد الصحراء، ما شبعت عيناه منا 11
ويقول أيضا:
أبي,, ما شبعت أنا منه، فالسندباد
كما البحر لا يستقر 39
خامسا: ذكر بعض قرائن الأب:
يقول دخيسي مشركا أغراض الأب في نعيه وبكائه:
نعلك الأسود لم يبرح خطاك
ثوبك البني يتلو بعض ذكر 42
أما الرباوي فيقول مخاطبا ابنه زكريا ويدعوه إلى التمتع بوجوده قبل أن يحرم منه كما حرم هو
 من أبيه:
 لو عدت صبيا
فأداعب مثلك لحيته السوداء
واجعل من ذاك الطربوش البني
كرة أقذفها بيديَّ 17
سادسا: التركيز على البعد الديني لشخصيةالأب، ودرجة ارتباط بالمسجد وبقراءة القرآن:
يقول دخيسي:
 ثوبك البني يتلو بعض ذكر
والذكر هنا إشارة إلى القرآن الكريم
أما الرباوي فيقول:
 ما شبعت أنا منه، وكيف؟ وسكناه
المساجد,,, 11
وقوله أيضا:
ربتما ألقاه كعادته في المسجد يسمع فقرات
من درس الشيخ العثماني، آو يقرأ ما تيسر من
آيات التوبة وهو الرجل الأمي, عجبا ! 30
سابعا: الاتفاق في وصفه بالحبيب:
 يقول دخيسي:
عد يا حبيبي 42
ويقول الرباوي:
هل يدري الأحبة أن لي قلبا
         كقلب الأم في الرقة
         إذا اخذ المنون حبيبه 32
 
استنتاجات:
إن هذه التقاطعات الموجودة بين قصيدة "عد أبي" لبوعلام دخيسي، وقصيدة "من مكابدات السندباد
المغربي" للشاعر الرباوي تظهر بجلاء صدق التجربة التي يتحدث عنها كلا الشاعرين، بحكم الارتباط
الأسري الذي يربط الأب بالابن من ناحية القرابة والنسب والإحساس،
كما يعرض للظروف الاجتماعية التي تعلقت بسفر الأب عند كل من الشاعرين، هذا السفر الذي تمحور
 حول رغبة الأب في ضمان حياة كريمة للأبناء في أرض الوطن، وبالتالي ما شبعت عيون الشاعر
- دخيسي- الرباوي- من محيا الأب وصدره الحنون، الأب هذا الواحد في الظرف والمتعدد في الشخص،
كما حملت التجربتين معا اتفاقا في الوصف وذكر بعض القرائن المتعلقة بالأب، مثل الثوب البني،
المسجد، القرآن ، الذكر، مما يوضح البعد الديني الذي ترسخ في الثقافة الأسرية عند كل من الشاعرين،
فرغم السفر إلى بلاد الروم –على حد تعبير الرباوي- إلا أن هذا لم يثن الأب عن التشبث بالقيم
الإسلامية والطقوس الدينية، حيث يحضر حلقات الذكر ، بل ويسعى إلى غرس هذه القيم في الابن
برغم قصر المدة التي يحياها معه،
اعتراف كل من الشاعرين بعدم الامتلاء الروحي والعاطفي من شخصية الأب، فمهما بلغ الإنسان من عمره
 إلا انه يظل حاملا لطفل رابض في أعماقه يتحين الفرص ليطفو على السطح، ولعل لفظ "أبي" تبين بجلاء
 هذا العمق العاطفي وهي لفظة تحيلنا إلى قصة إسماعيل عليه السلام عندما قال:
 قال يا أبت افعل ما تومر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"
الاتفاق من حيث الرغبة الجامحة في اللقيا، وان استحالت على اعتبار أن الأب هو المعادل الموضوعي
 للأمن والأمان والاستقرار العاطفي،
عودة الى الإهداء:  قال دخيسي: "إلى من رحلوا،" وقال الرباوي "إلى أبي في أرض الغربة"،
عود على بدء:
إن المفارقة أيضا هي أن يضع الشاعر محمد علي الرباوي مقدمة لديوان الشاعر بوعلام دخيسي،
الحرف الثامن" وكلنا نعلم من هو الشاعر محمد علي الرباوي الذي تشبع بازهار الالم وعرس الدم ومنطق
الطير ولوركا والمتنبي،،، وقد اقر الرباوي في مقدمته "إن دخيسي حاول أن يدخل عوالم الذات وهمومها
 بعدما كان ديوانه الأول "هديل السحر" أكثر ارتباطا بهموم الأمة، يقول سيكتب شعرا لا يهتم بالقول،
وإنما يهتم بالتعبير، لأنه سيلتزم التعبير عن تجاربه " المقدمة7، وقصيدة "عد أبي" هي من بين التجارب
 الذاتية التي يطل علينا بها الشاعر صاحب حرف "الدال" دخيسي"الحرف الثامن"
 
 
 
 
 
 
 
 

 

 

 

 

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م