رواية: "أوراق الرماد" لمحمد العتروس
رحلة الضياع والاغتراب
· مصطفى شعبان.
محمد العتروس: كاتب مغربي من مدينة بركان - شرق المغرب-. صدرت له سبع مجموعات
قصصية وهي :"هذا القادم"،"رائحة رجل يحترق"،"هلوسات"،"عناقيد
الحزن"،"قطط تلوك الكلام"،"ذاك الوجه"و"ماروكان".
كما صدرت له رواية معنونة ب:" أوراق الرماد"،الرواية
من الحجم المتوسط صادرة عن شركة: مطابع الأنوار المغاربية وجدة في طبعتها الأولى
2010. تقع الرواية في سبعة فصول، تأخذ أسماءها من شخصيات
الرواية. وهي
أسماء مذكرة باستثناء ورقة واحدة مؤنثة وهي: أحلام. وتعود هذه الأسماء إلى
الذاكرة الجمعية، للمدينة التي تدور حولها الأحداث، أو تمتاح من دلالات لها معنى في
الوعي الجمعي، للذاكرة الثقافية المحلية
للمدينة.
تمتد أحداث الرواية بين مرحلتين زمنيتين: المرحلة الأولى مرحلة الصبا والأحلام،
والمرحلة الثانية يمكن تسميتها مرحلة النضج. المرحلة الأولى : تصور شخصية الطفل أحمد- الشخصية الرئيسة في الرواية- و تثارفيها
بعض الأحداث التي شغلت الرأي العام في ذاك الوقت، مما يجعلنا نخمن أن الفترة
الزمنية المقصودة، تتعلق بنهاية السبعينيات والثمانينيات من باب التقريب:
"كان أستاذ الاجتماعيات السي زبيدة كما تلقبونه يفتح لكم المجال في الربع
الأخير من كل حصة لتدلوا بدلوكم في موضوعات عدة. كنتم تناقشون بكل حرية مواضيع
الساعة : الصراع الطبقي، الماركسية ، الصحوة الإسلامية ،حرب السوفيات ،الحرب
الأهلية اللبنانية مجزرة صبرا وشتيلا...") ص50 و 51(. كما تحيل نقاشات الفصل على "عصر الايدولوجيا
"في العالم العربي - كما يسميها الجابري والتي انشغل فيها الفكر العربي، بقراءة الواقع العربي في ضوء
المقولات الماركسية. و قد طال هذا التأثير فيما بعد الجامعة والتعليم الثانوي، وما
يتبع ذلك من الشعارات اليسارية والأغاني الملتزمة والأدب الملتزم. كلها كانت تواكب
صدى المرحلة؛ مرحلة اتسع فيها الأمل في النفوس لانتظار غد أفضل.
أما المرحلة الثانية، فيمكن أن نسميها مرحلةاليقظة، وفيها تكسرت أحلام
الصبا وبدأ العد العكسي للطموحات، حيث الاصطدام بالواقع المرير عند جيل أحمد، والبحث
عن ملاذ آمن والذي هو الهروب من الوطن وطلب الهجرة. إنها السمة التي طبعت المرحلة.
يقول الراوي:"أنا حتما لم أكن الأسوأ ..أو على الأقل لم أكن أسوأ من عباس
الولجة ولا عبد الله الكانوخ ولا كان حظي أسوأ من حظ سام لالماني..
على الأقل استطعت أن أفر بجلدي قبل الطوفان." ص ) 16(.
تتوزع أحداث الرواية
بين فضاءات: مدينة بركان وفضاءات باريس. أما الفضاءات الأولى التي هي مدينة نشأة
الشخصية الرئيسة، فيستحضرها الراوي صراحة أو تلميحا، يذكر مثلا أسماء أحيائها: لكربا ـ شارع
الذهب – شارع الحب- ويذكر وليها سيدي أحمد أبركان والذي تحمل المدينة اسمه، ويذكر
البرتقالة الشهيرة المنتصبة في مدخل المدينة. والفضاء الثاني: باريس موطن الهجرة الذي
لجأ إليه البطل أحمد ـ كما جاء في الرواية
ـ هروبا من الغبن والقمع، ومن بين أمكنة باريس : "بلاص كليشي " المقاهي،
ومتروالأنفاق ...
العنوان كمؤشر لبناء قراءة للنص :
يعتبر عنوان الرواية "أوراق الرماد" مؤشرا
يساعد على تأسيس قراءة أولية لفهم النص. وهو عنوان مركب، فيه نبرة حزن وأسف، يحيل
على شيء ضاع وتكسر- الطفل الحالم بغد أفضل كما جاء في الرواية- وقد سبق للكاتب في
مجموعاته القصصية، أن استعمل هذا النوع من العناوين، عناوين مطلية بطلاء حزين وتفتح
منفذا لولوج النص، أو على الأقل تأسيس نظرة للتأويل خاصة في المجموعتين القصصيتين :
"رائحة رجل يحترق" و "عناقيد الحزن" والتقنية نفسها استعملها الكاتب في رواية: أوراق
الرماد. وكما هو بادٍ من خلال العنوان، فإيراده كلمة الرماد له دلالة
على السراب والنهاية والفناء. فلم تعد النار في قمة اشتعالها ، خفتت الشهب وتحولت
إلى رماد وهو ما يوحي بانتكاسة الذات والأحلام. وهذا ما نكتشفه من خلال قراءة الأوراق
التي تساعد إلى إعطاء إجابة لقراءة العنوان.
- ماذا يحدث ؟ وما مصير جيل بأكمله ؟
لعله السؤال المركزي الذي حاولت الرواية طرحه في محطات عدة، سؤال جيل كان
يحلم بالمستقبل، يحلم بغد أفضل، فأصبح الكل فيه يبحث عن طريق النجاة تاركا خلفه كل
شيء: الأرض، الأهل، الحب... الكل يبحث عن الهروب بعد أن سدّت الآفاق. ولو أدى ذلك إلى
التضحية بالنفس والنفيس، عبر" الحريق" الهجرة السرية ،عبر الزواج من
امرأة لا تقاسمه شيئا وعبر التنكر للمبادئ والقيم والأخلاق : "كل الطيور تهجر
أوكارها لتعود إليها في يوم ما إلا نحن.. نحن الوحيدون من دون الناس نهجرها كي لا
نعود إليها أبدا وإذا عدنا ،عدنا مخلوقات أخرى لا نتعرف إليها." ص :)36( .
من هذا المنطلق، تعبر الرواية
عن انشغالات الإنسان
بالسؤال عن مصيره -البعد الإنساني - لقد ضاع المشروع الذي أفنى فيه الطالب سنين
الدراسة. وصار التفكير في الهرب في كل الاتجاهات، وذلك حين تحول الوطن إلى منفى ،إلى
محيط جغرافي تجمع فيه الناس لا غير، وبدون روح تشد وئام ساكنته. صار هوس المستقبل
هاجس الشاب المتعلم.واتسع الشرخ بين السلطة والمواطن، فلم تعد هذه الأخيرة توفر للمواطن
أي شيء، غير القمع والغلظة في تسيير شؤون الحياة، حيث تنعدم أبسط الحقوق حين يطالب
المواطن بحق العمل أو بأشياء بسيطة تعتبر من أبجديات الحياة كتجديد البطاقة
الوطنية مثلا..
وهكذا تتناسل أحداث الرواية مأسوية عند الغالبية العظمى من شرائح المجتمع،
وشبقية وردية عند شريحة اجتماعية معينة تستفيد من الوضع القائم مثل عباس الولجة
وأمثاله الذين يغتنون بكل الطرق؛ الشرعية وغير الشرعية. يدخلون قبة البرلمان أو يستوزرون.
في المقابل أصبحت الشهادات لطلبة العلم بندقية
تطلق في الهواء وبابا للبطالة والضياع. ولما ضاعت قيمة الشهادة العلمية استوى
الجهل بالعلم، وأصبح الضياع سمة مشتركة بين الرجل والمرأة بين العامل والطالب. تتمظهر
الصورة الأكثر قتامه، في هروب الإنسان ممن يحب كما هو الحال بالنسبة لأحمد وأحلام، إذ لم يستطع الحب والوفاء
الصمود أمام زلزال المصير الغامض والخوف من الغد.فأصبحت اللغة المشتركة عند جيل
أحمد هي لغة الهجرة"الحريق"-الهجرة السرية- التي كثرت في التسعينيات
فحصدت الأرواح البشرية - خاصة من المنطقة التي ينتمي إليها كاتب النص - حيث ضاق بشبابها
المتعلم المكان والإرتزاق فيه،واستولى على النفوس الإحساس بالظلم و"الحكرة".
فالعمر لا يتجدد، والحياة تضيع، فأصبحت باب المغامرة بالنفس –الموت- في هذا الوضع مقاومة
بين الموت البطيء والبحث عن صون كرامة النفس وعزتها.إما أن يكون هذا المواطن أو لا
يكون، أن يعيش مرفوع الرأس مكرما أو أن يموت. تشعبت طرق المغامرة في البرّ والبحر
تعزف سيمفونية الهرب والحريق. والمقطع من الرواية يصف كيف تسلل الكانوخ بطريقة غير
شرعية: "وهاهو يقص عليك كيف استطاع بقنينة ويسكي أن يشتري ذمة دركي الحدود
ليتركه يعبر من بني ينصار إلى مليلية .ومن هناك استقل شاحنة أدخلته إلى الباخرة
المتجهة صوب "مالقا" بمائة درهم ،ثم من "مالقا" ،أخذه احد
المهاجرين إلى باريس ." ص:50. "ونفس الهاجس -الحريق- يسكن
قلوب جيل بأكمله:"أنا
ليس لي الحق في السفر.ربما سأحرق في أول فرصة تتاح لي ." ص :37.
رواية أوراق الرماد رواية الاغتراب والضياع:
1
الاغتراب في الوطن: يبدأ هذا الإحساس انطلاقا من المدينة التي تهزها التحولات
المتسارعة والمستجدات الكونية فيما يعرف بعالم العولمة. زمن تضيع فيه الأنا في
الآخر. حيث أصبح مسخ الأصيل سمة اللغة الكونية، تبعثر الثقافة الأصلية لتحل محلها
ثقافة جديدة بحثا عن خلق مستهلك لسلعة تباع. والمقطع من الرواية يتحدث عن هذا
الاغتراب الذي زلزل كيان البطل أحمد: "كل شيء تغير الشارع والبنايات والمدارس
والأطفال والوجوه والناس ومعاملات الناس وعادات الناس وأحلام الناس"ص
27. إن هذا التحول الذي يمس كل المظاهر
الثقافية الأصلية والتي كانت تعكس حياة مجتمع يتميز برموزه الخاصة به. و كان الكاتب
قبل هجرته جزءا من هذه البنية التي تخضع للتفكيك والتحلل. ولعل الذي يشعر أكثر ويتأثر
بهذا التحول هو الغائب عن المكان، لأنه لم يواكب التحولات المتسارعة، فيصبح غريبا
في الزمان والمكان. ويقترب من هذا المعنى كلام
التوحيدي : "أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وابعد البعداء من كان
بعيدا في محل قربه "[1].
2 ـ الاغتراب بين الأصحاب والساكنة التي كان
ينتمي إليها البطل أحمد: حيث أصبحت المنفى منفى الذات التي تتغرب:"كل الوجوه
غريبة أو أني أنا الغريب .
لم يعد
أحد يلقي السلام كما كانوا يفعلون دائما في مثل هذه الساعة" ص 21
3 ـ الاغتراب عبر الذاكرة: حيث تتحول الأمكنة
إلى كابوس في عالم الذكرى، من بينها مركز الشرطة الذي لاقى فيه البطل أحمد المهانة
و"الحكرة" على يد رجال الأمن. وعبر هذا المشهد يصف حالة الذعر والتقرح
النفسي الذي أصابه وهو يمر بجانب بناية الأمن : " وأنا أمر بمركز الشرطة.
تذكرت أول مرة كتب علي على مضض أن ادخل هذا المبنى كان ذلك منذ زمن بعيد حين
اضطررت لانجاز البطاقة الوطنية.دخلت المركز وأنزلت مع قطيع من الرجال والنساء إلى
تحت حيث سطرنا كالسردين. أول شيء استرعى انتباهي الرطوبة المفرطة وقتامة الجو
،واكفهرار وجوه العاملين هناك، وكلامهم النابي الساقط بدون سبب ،إلا أنهم بوليس
ونحن من عامة الشعب.كان ثمة واحد يمر علينا بين الحين والأخر ويقول:
- اقبض الحيط يا الحمار.
-
اسكت اولد الكلبة.
-
عدل وقفتك يا لكدار."
ثم يصف المكان المخيف ورائحة التسلط والقمع المنبعثة منه بقوله:
.... حيث كان معلقا على بابها لافتة غامقة اللون لكنها صادمة مكتوب عليها:
" السمع والطاعة أساس الأمن
"
فاسمع وأطع تدخل آمنا، وتخرج آمنا، فالداخل إلى هنا مفقود والخارج من هنا مولود،
أمه داعية ليه" ص19وص 20.
4 الاغتراب في المهجر: لقد اختارت
الشخصية الرئيسة منفاها وهاجرت إليه. فإلى جانب ما تمثله باريس من اغتراب في المكان
وبعد عن الأرض والثقافة والبيئة التي أنبتته، تحمل الشخصية المهاجرة بذرة الاغتراب في الداخل: الاسم والثقافة وملامح
الوجه،كما يزيدها اغترابا ما تلاقيه من تعامل مع محيطها الجديد، باعتبار أنها
مستهدفة وهي سبب رئيس في الكثير من الأزمات: البطالة، انعدام الأمن، والتلويح بمشاكلها
كورقة رابحة لكسب أصوات الناخبين. كل هذا يضاعف الشعور بالاغتراب ويؤزم الشخصية أكثر
سيكولوجيا :"اخرج من من المترو
يعترضني شرطي خبيث ينظر إلي بشزر وعدوانية ...
يرمقني بقسوة ،يتفرسني ثانية ثم يتصفحني من كل الجهات ويأمرني أن أقف مكاني
ووجهي إلى الحائط ويدي إلى الأعلى ورجلاي منفرجتان،يتحسسني ابن الكافر في كل مكان
...ثم يقلبني مثل دفتر الوسخ ويقول لي :
"- افرغ جيوبك؟
أفرغها من كل شيء ، أوراق كثيرة مكتوبة بعربية غير مفهومة ،لا محل للفرنسية
في جيبي ،حتى أرقام الهواتف أضع أسماء اصحابها بالاسم العربي .تبرز على وجهه من لم
يوفق في مهمة إلهية . يسألني في تذمر:
-
أوراقك الثبوتية؟
...
يناولني
أوراقي ويقول لي متأسفا:
-
معذرة.. ليلة سعيدة.
-
أقول له:
-
- لماذا؟
-
يقول:
-
هذا روتين العمل.
-
أقول :
-
لماذا أنا بالذات؟ ألأني أسود الشعر بني
العينين؟" ص 25.
الدلالات السميائية في أوراق الرماد :
النص غني
بالرموز والإحالات النصية والدلالية، وغني كذلك بالعلامات التي تساهم في إنتاج
دلالات معينة للنص. وفي نفس الوقت، تجعله منفتحا على التأويل. سنقف على بعض من
الدلالات السميائية:
- العدد
سبعة: الخاص بتبويب الرواية، لهذا العدد دلالة في الثقافة الإنسانية بشكل عام لما
هو عدد مفتوح على الكثير من الدلالات الاجتماعية والنفسية والدينية )سبع سموات،سبع بقرات سمان ،سبع سنبلات خضر( . وتوظفه الحكاية
الشعبية بشكل كبير: سبعة رجال. ولعل الكاتب اختار العدد سبعة في تبوبيه للإحالة
على الزمن الأيام السبعة وعلى دوام طعم المتاعب المتكررة في سائر الأيام عند جيل
الكاتب.
- أحلام:
- وهي الورقة الثالثة- تحولت المرأة إلى رمز للضياع. اسم على مسمى في النص، حيث تم
توظيف الدلالة اللغوية المستوحاة من المعنى اللغوي للاسم للتعبير عن واقع المرأة . فلم تعد عربون
الخصوبة والعطاء، لم تعد تعرف كيف تنجو بنفسها، تبحث عن زوج عن الحب،عن عشير، فهي
تبحث عن ظل رجل تحتمي به في هذا الواقع المرير لتنقد خصوبتها المهددة. فقد تحول
عندها الزواج إلى محطة إنقاذ، تبحث عنه بكل الطرق، بالحب، بالشعوذة... ضاعت المرأة
حين فقدت العمل إذ فقدت مشروعية حياتها وأصبحت سلعة للاستهلاك الزائد : " تعريتي
تعرية خاصة...
تعريتي من
نوع فريد. وعواملها عوامل خاصة ليس اقلها أنني معطلة عن العمل،لا افعل شيئا عدا
كنس الباحة التي قبالة البيت في كل صباح وغسل الأواني وإعداد الطعام والتفرج على
المسلسلات المصرية البليدة،ومتابعة برامج المسابقات المعطلة للعقول.ولا أنسى
متابعة المسلسلات المكسيكية المدبلجة.."ص:32.
يتناوب الراوي
معها السرد في الورقة الثالثة، ويعطيها صوتا للحديث. وهو حضور فني للمرأة، أما
الواقع فقد همشّ حضورها بإقصائها من العمل لتبقى في البيت، تتفرج على الأفلام المد
بلجة .
المزهرية:
تحطيم المزهرية على يد البوليس الذين داهموا المنزل ليلا واعتقلوا الأب والأخ؛
دلالة لتحطيم العش الأسري" حياتنا يا احمد كالمزهرية حين تنكسر. هل
تقدر أن تلملم كل أشلائها وتعيدها كما كانت أول مرة ؟ هل تقدر؟ ." ص:(102(.
التواصل
المنقطع في أوراق الرماد :
يتميز العمل السردي في أوراق الرماد بخاصية التواصل المنقطع.حيث، نستطيع أن
نقرأ الورقة - الفصل- كوحدة مكتفية بذاتها ،وكقصة مستقلة. وفي نفس الوقت كوحدة
متصلة بالورقة السابقة واللاحقة لها.حيث، يتسلسل السرد عبر منحى التواصل المنقطع وخط
فني دقيق يربط الأوراق في شمولية النص، فتتحقق بذلك لذة القراءة ومتعتها داخل كل
ورقة. ويبقى السرد متصلا عبر شخصيات قد تظهر
في الورقة الأولى وقد تغيب، ثم تحضر وتنقطع.
إن أوراق الرماد في سردها المتميز، تجد منبتها في تقنيات المتن القصصي
الواسع للقاص محمد العتروس إذ توظف في حكيها التراث المكتوب والشفهي وتنفتح على الشعر
) عبد الوهاب البياتي( والتراث الشعبي: المثل وقصائد المشيخة
يتغنون بها عن الغربة والاغتراب، )الشيخ اليونسي (.
الضمائر في أوراق الرماد:
الضمير
المهيمن في النص هو ضمير الأنا،استعمله الكاتب لتقريب المسافة بينه وبين القارئ.وهو
ضمير نحوي في النص، لا يحيل على تطابق الكاتب ومتن الحكي. كما استعمل الكاتب ضمير
المخاطب في الكثير من المحطات للغوص في اكتشاف البعد النفسي،وإبراز للمتلقي
التقرحات التي ألمّت بهذا الجيل مرة،ولمساءلة الذات عبر مونولوج داخلي مرة أخرى.وللتأكيد
للقارئ عما يجري من متناقضات في هذا الواقع والتفرج عليه مباشرة، وكأن الراوي غائب
بالتمام. وكان حضوره في الورقة الرابعة بشكل
أوسع حيث ذكر المآسي والأحداث الأكثر
درامية: اعتقال الأخ- علي- الطالب الباحث المختص في التاريخ الذي كان يريد أن يبحث
عن الحقيقة المروية في التاريخ الرسمي
والتاريخ كما وقع ،فزج به في السجن :"التاريخ هو التاريخ الذي ندرسه لك ،وكل
كتب التاريخ الأخرى بهتان .." ص:56 .اعتقال الأب - مناضل الأمس وطالب الحرية
للوطن- على يد رجال الأمن الشباب وبطريقة مهينة لا لشيء سوى انه أب الطالب الباحث.
موت الأب بغصة، وذلك للمهانة التي تعرض لها، بعد أن انعزل في البيت وعاف الأكل
والشراب حتى قضى غمّا وكمدا. كما تتحدث الرواية في مفارقة عجيبة حين تتحدث عن
اعتقال الأب المناضل والطالب الباحث من جهة وشخصية عباس الولجة من جهة أخرى. وكيف
أصبح هذا الوطن بعد الاستقلال يهين الذين ضحوا من اجل تحرير البلد، فحملوا السلاح
واطروا المظاهرات. في المقابل يجازي الذين
خانوا أو ساهموا في إفساد البلاد مثل: عباس الولجة الذي اعتلى السطة وأصبح من ذوي النفوذ
والمال. هذا المال الذي كسبه من تجارة الغش والخديعة ببيعه لحم الحمير. والمقطع يصف
لنا طريقة وصوله إلى السلطة :" الحماس أصبح اليوم جزارا معروفا،كما اخبرني
عبد الله الكانوخ. اغتنى ثم دخل في مشاريع بيع وشراء العقارات، بل انه تقدم في
الانتخابات البرلمانية وأصبح نائبا عن المنطقة كلها.يقال والعهدة على"
الكانوخ "أن ثروته هذه هي ثمرة تجارة في الحمير.
الحقيقة أنه
مرّ زمن عانت فيه حمير المدينة والمنطقة من الانقراض..." ص:16.
أوراق الرماد بين الحقيقة الأدبية
وواقعية الحكي :
تبقى مسألة أخيرة أود إثارتها في
هذا المقال وتتعلق بالسؤال الأتي :هل يمنحنا حضور الذات بشكل قوي مشروعية طرح
التساؤل حول الهوية السردية للنص سيرة أم رواية ؟
أم أن فضاء الكتابة لا يخرج عن هذه
الذات؟ وكما يقول توماس كليرك :" نستطيع أن نقول بطريقة مفرطة في العمومية
بكل تأكيد،إن الكاتب يضع دائما جزءا من ذاته في أعماله،الشيء الذي يعوق كل نقاش في
الموضوع.".[2]
فلا حضور
ضمير المتكلم، وبعض المشاهد التي يختلط فيها الواقعي بالخيالي عبر شخصيات وأمكنة،
تستطيع الحسم بجواب النفي أو الإثبات. فالكاتب جزء من الواقع فلا غرابة أن يضع
جزءا من ذاته في عمله، باعتباره جزءا من هذا الواقع الذي هو منه ويكتب عن همومه.
وكما يقول الباحث المغربي محمد غرافي: "كل كتابة عن الوطن الأم
استنطاق حتمي للذاكرة"[3]
فالرواية ليست حكيا استعاديا ، يركز فيها صاحبها على وجوده الخاص، وحياته
الفردية، ولا على تاريخه الشخصي ولاتطابق اسم المؤلف والسارد. كما يحدد ذلك فيليب لوجون في حد السيرة[4].
فرواية: "أوراق الرماد " ليست مسار حياة الكاتب، ولكنه مسار جيل كان
يحلم بغد أفضل، يحلم بالعمل والاستقرار، وتم السطو على هذا الحلم. فقد أصبحت
الشهادات الجامعية لا تجدي نفعا، وصل الإحساس بالقهر والقمع والظلم حدا لا يمكن
تحمله. لهذا اختار هذا الجيل الهرب عن طريق الانكفاء عن الذات.
يشتد هذا الحنق في ص 49 -50 وهذا ما يستشف من كلام إحدى شخصيات الرواية :
الكانوخ – شخصية مهاجرة- "...أسر لك الكانوخ في نوبة سكر حادة انه سيهجر هذه
الأرض التي تشبه القطة الحمقاء ،تأكل أبناءها ،وإذا لم تأكلهم تخنقهم . وحين اكتشف
أن السنين تنسل من أصابعه كالماء ، حمل معطفه الشتائي وغاب في ضباب الصباح الكثيف
. بعد أعوام هاأنت تسهر معه كل جمعة وسبت عند الشيخة الرميتي ..." - يقصد
المهجر- . فعملية التطابق في أوراق الرماد
لا تفي بهذا الغرض حيث يكون فيها الكاتب ذاتا وموضوعا للنص في آن واحد.إن العمل
عمل تخيلي ومحاولة نسغ تجربة الواقع الذي عاش فيه
الكاتب ويكتب عنه . فالعمل عمل روائي بامتياز، خلافا للسيرة التي تبحث عن
الوفاء للواقع المعيش. كما أن السيّر تفتقد إلى الطابع التخيلي للنص باعتبار
وقائعها وقائع حقة متعلقة بمسار شخص هو
الحاكي .
وإلى جانب هيمنة الذات في النص عبر الحنين والذاكرة. هناك نقطة أخرى ينبغي
الإشارة إليها وهي:أن النص نص مهجري. وكتابة الهجرة تماما مثل أدب الحرب، تطغى فيه
الذاتية التي لا تخلو من صدق ومعاناة. وكلما كان الصدق في الكتابة تجعل من القارئ يتموه
في محاولة رصد الحقيقة الأدبية التي يقرأها والحقيقة المتعلقة بالكاتب، فيدخل
القارئ طرفا في الخلق والإبداع ويشعر بالفعل بأن الأحداث واقعية بالفعل ولها علاقة
بالكاتب. فأدب الحرب ينبثق من التجربة الميدانية الصادقة. والنص المهجري ينبثق من
ميدان الاغتراب، فتطغى فيه الذاتية لأنه جزء من تجربة إنسانية تكتب بطريقة إبداعية.
إن الحقيقة المروية هي حقيقة أدبية صنعت إبداعيا، قد تحيل على حقيقة خارج النص وهي
التي أثرت وأبدعت النص.
وفي غياب أي بوح من الكاتب على الغلاف أو داخله.، يبقى تحديد الكتاب بأنه
سيرة أم رواية، هي من أهم المشاكل التي تعترض القارئ، كما يرى في ذلك توماس كليرك ص:21 (نفس المصدر).أي صعوبة البت
بالحكم بالنفي أو الإثبات في تحديد الهوية السردية للعمل. وإن هذا التردد الذي يقع
فيه القارئ في تحديد الهوية السردية للنص بين: هل هو رواية أم سيرة ذاتية ؟ هو ما يزيد
من جمالية النص الأدبي، حيث يلقي النص بالحجرة في الماء، ويفتح للقارئ أبواب
التأويل ليصبح مشاركا في بناء أو إعادة بناء الميثاق الأدبي بين الكاتب والمتلقي.
خاتمة: إن
الجيل الذي تتحدث عنه الرواية جيل تساوت فيه المرأة والرجل مساواة بالتمام، تساوت في
البحث عن ملاذ آمن لكسب الرزق بعيدا عن
البلد ،عن الوطن الأم. فخطاب الرواية ليس هو الخطاب الرسمي الذي يروج له من خلال
قنواته الإعلامية:"قولوا العام زين" وتتغنى به المؤسسات الرسمية حتى حال
الشطح والفناء. وتردده معه الشريحة المستفيدة من "الوزيعة". إن خطاب
الرواية نتفرج فيه على واقعنا المأساوي، عن
قيمنا كيف تمسخ ،عن شواهدنا كيف تلتهمنا الذئاب في سوق العمل فتخنقنا
وتقصينا من الوطن لنبحث أين نعيش بعيدا عن هذا الوطن، نتألم حسرة فنكتب
بصدق عن همومنا،لأننا ندرك جيدا أن العيش في الوطن وثقافته صلاة وعبادة ونقول : الوطن أرض،بل مادة وروح،العيش بين أضلاعه صلاة وعبادة، صلاة تطمئن
الروح القلقة فتهدأ. البعد عنه منفى للروح فتشقى وتقلق.
إن رواية أوراق الرماد جريئة في لغتها، مجددة في
سردها وأسلوب حكايتها. صنعت من الوعي الذي تشكل على أرض
الواقع في معانقته لهموم المقهورين. انها رحلة جيل الضياع والاغتراب.
مصطفى شعبان كاتب مغربي مقيم في باريس.
إصداراته
:
-
أمواج الروح
سيرة مهاجر سري في باريس 1998.
-
مرايا
رواية 2008.
-
- وردة
الشاعر مجموعة قصصية 2008.
[1] التوحيدي أبو حيان
الاشارات الالهية مقدمة المحقق عبدالرحمان بدوي مطبعة جامعة فؤاد الأول القاهرة
1950.
[2] توماس كليرك الكتابة الذاتية إشكالية المفهوم
والتاريخ ص 8 ترجمة محمود عبد الغني . منشورات الموجة2003.
[4] فيليب لوجون السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ
الأدبي ص 22 ترجمة عمر حلي المركز الثقافي العربي ط الأولى 1994.