الاثنين، 22 يونيو 2015

مع الروائي/القاص محمد مباركي


مع الروائي/القاص محمد مباركي

21/06/2015
تقرير عيسى حموتي
______________________

مع الروائي/القاص محمد مباركي
افتتحت جمعية المقهى الأدبي وجدة أنشطتها الرمضانية هذه الليلة باستضافة الأستاذ محمد مباركي في لقاء مفتوح 
نشط الأمسية الأستاذ الدكتور بنيونس بوشعيب ، مستهلا حديثه بالثناء على جمعية المقهى الأدبي التي ما فتئت ، ترص لبنة فوق لبنه في طريق بناء صرح ثقافي أضحى لصداه رجع وطني وعربي ، قبل أن يلتفت إلى التجربة السردية عند ضيف الليلة، في شقيها الجمالي والفكري، جددتها في خمس نقط ؛الإيقاع ، رسم الشخصيات وتحليل أبعادها،الفضاء الزماني والمكاني ، تداخل الأوتوبيوغرافي والخيالي ، والموقف من العالم ليفسح المجال للحضور الكرام ليستفزوا الكاتب بشكل مباشر حول تجربته الإبداعية ...أجاب على العديد من الأسئلة ، ارتبطت بدخوله إلى عالم الكتابة متأخرا باعتبار السن، وببدايته المحتشمة التي توقفت لينتفض طائر الفنيق من رماده بعد زهاء عشرين سنة ، وبتنقله بين القصة والرواية ، كما تحدث مجيبا عن اسئلة ارتبطت بقارئه المفترض ، في ظل تحويل الثقافي المحلي إلى رواية ، وبسر المتهة التي تحمل القارئ على التسرع إلى درجة الخيانة ليقفز على السطور لهفة لإشباع الفضول ...كما أضاء بعض الملاحظات كارتباط عناوين مؤلفاته بالجسد، وعن طريقة قراءته للقصة ، وعن امكانية كتابة صنو " لرائحة التراب المبلل" و عن طقوسه في الكتابة ، وأخيرا وجه باعتباره مدرسا توجيهات للمبدعين الشباب ..
حوصل المنشط محتوى الأمسية و أضاف أن من أهم مزايا النص عند الأستاذ محمد مباركي كونه مطواعا لعملية النقد 
واختتمت الأمسية بالاستماع إلى قراءة لبعض قصصه.

الخميس، 4 يونيو 2015

صدور هلوسات رشيد قدوري أبو نزار الساخرة



صدور هلوسات رشيد أبو نزار الساخرة


'هكذا جُنَّ قلمي' ليصارع الأفكار والظواهر الشاذة






صدر، ضمن منشورات الموكب الأدبي وجدة في دورته الثالثة، مؤلف جديد للمبدع رشيد قدوري (أبو نزار)، عنوانه (هكذا جُنَّ قلمي –هلوسات ساخرة) يضم حوالي 26 قصة، أو هلوسة كما يصر صاحب المؤلف أن يسميها، بل ويفرد لها تقديما خاصا يوضح فيه معنى الهلوسة الإبداعية، التي في ظاهرها جنون وباطنها حكمة يستنبطها القارئ نهاية كل نص...
المؤَلَّفُ باكورة مجموعة من الهلوسات كان ينشرها الكاتب رشيد قدوري "أبو نزار" على صفحته بالفايسبوك، ولاقت استحسان العديد من القراء ما دفعه للتفكير في جمعها في مؤلف ورقي، وأضاف إليها نصوصا جديدة تطبعها السخرية السوداء،أو اللاذعة أحيانا. يقول الدكتور مصطفى سلوي في معرض تقديمه للكتاب"لقد جاءت هلوسات الأستاذ رشيد قدوري "هكذا جُنَّ قلمي..هلوسات ساخرة" في قالب قصصي شائق، جمع فيها المبدع بين الجد والسخرية والنقد اللاذع، الذي من شأنه وضع حد للمد الرديء الذي أصبح يطغى على الساحة الثقافية والفنية على حد سواء.وهذا، لعَمْرُكَ، هو ما يجعل هذه النصوص، التي ينطوي عليها هذا المجموع "هكذا جُنَّ قلمي"الفريد في نوعه، جديرة بالقراءة وإعادة القراءة والتَّتَبع. وإذا كان "جون بول سارتر" قد جعل وظائف الأدب ثلاث: الإمتاع والتسلية، ثم الفائدة، فالتغيير، فإن ما جاءتْ به نصوصُ الأستاذ رشيد قدوري، ليصب في هذا المنحى بمستوياته الثلاثة، حيث إن القارئ يجد التسلية والمتعة، ويمتح الفائدة المرغوب فيها، ليخلص، في نهاية المطاف، إلى التغيير والتحول، الذي يجعل منه إنسانا آخر، غير ذاك الذي كان قبل قراءة الهلوسات".
الكاتب رشيد قدوري أبو نزار يستمد نصوصه من فكرة "أن خطاب الهلوسة هو خطاب الرفض الممزوج بالسخرية المرة، وليس مجرد رفض من أجل الرفض، كما أنه ليس خطابا سطحيا يستهدف تصفية حسابات شخصية... فالهلوسة أعمق، إذ تصارع أفكارا شاذة وظواهر مشينة لا تقتصر على ميدان معين..  قد تبدأ الهلوسة من محيطها الأدبي الثقافي، لكن تتسع إلى ميادين أخرى، لأن الظواهر المشينة والشاذة لم تترك ميدانا إلا ونخرته.. لهذا كلما كان الصراع فكريا، كلما كانت الخلخلة أوسع وأشمل وأعمق. أما إذا نزلت إلى قعر التشخيص، تحولت إلى "شَنْشَفْنِي نشنشفك". ويضيف صاحب الهلوسات "باختصار، الهلوسة جنون العقلاء، وهي حلقة من حلقات السخرية الصادمة التي تكسر كل الطابوهات". 
_______ 

رشيد قدوري في سطور

رشيد قدوري(أبو نـزار): من مواليد 2 ماي 1973 بدبدو. ويقيم بوجدة.
صاحب عمود "حقوق الهلوسة"على الموقع الساخر "بيه فيه".
نشرت له مجموعة من المقالات والنصوص الأدبية، في جرائد وطنية ومحلية ومواقع الكترونية.
فاعل جمعوي وكاتب "جمعية المقهى الأدبي بوجدة" حاليا.
______________
صور من حفل التوقيع ضمن فعاليات الموكب الأدبي وجدة





الثلاثاء، 2 يونيو 2015

استدعاء التراث في القصة القصيرة في المنطقة الشرقية نصوص "ألف قصة وقصة" الموكب الأدبي نموذجا


استدعاء التراث في القصة القصيرة في المنطقة الشرقية
نصوص "ألف قصة وقصة" الموكب الأدبي نموذجا
                         
             
د: إلهام الصنابي

على سبيل البدء:
إن الحديث عن التراث باعتباره قيمة إنسانية هو حديث عن الهوية وعمق الانتماء الذي يرسخ قيمة الفرد داخل المجتمع، وقيمة المجتمع داخل المنظومة الإنسانية الكبرى. والعودة إلى التراث بهذا المعنى هو عودة إلى الأصل الأول والأساس من أجل تثبيت الجذور وإسدال الفروع. لن نقف طويلا عند مفاهيم التراث اللغوية والاصطلاحية، ولكن لا بأس من التذكر بأن التراث  قد جاء ذكره في القرآن الكريم بصيغ شتى، ومفاهيم عدة، كما ورد لفظ التراث في المعاجم القديمة مرادفاً للإرث والورث والميراث، وقيل الورث والميراث في المال، والإرث في الحـسب، وقد تعددت دلالاته اللغوية والاصطلاحية حسب ما يقتضيه المقام، ليبقى التراث عموما هو كل ما خلفه السلف للخلف، سواء أكان التراث ماديا أم معنويا.
والتراث بهذا المفهوم يتبدى في الكثير من الممارسات والسلوكيات الإنسانية كيفما كان نوعها، ومن ثم فإن الأدب باعتباره سلوكا إنسانيا فكريا إبداعيا فإنه قد دخل في علاقة وجدانية عميقة مع هذا الإرث الإنساني واستطاع الاستفادة منه قدر الإمكان عبر مستويات التوظيف المتعددة والمتنوعة.
والقصة باعتبارها فنا أدبيا له مكانته الخاصة ضمن الأجناس الأدبية، فقد استطاعت أن تنسج خيوط الوصل مع التراث، فاستفادت منه، كما استفادت باقي الأجناس، ولعل الأهداف الأساس لهذه العودة إلى التراث يتجلى في منح النص القصصي روحا أصيلا تربطه بماضيه، وإعطائه الأبعاد الفنية والإيحائية المتعلقة بالموضوع، فالتراث هو جزء لا يتجزأ من ثقافة المبدع المتشعبة والمتنوعة، ومن ثم تأتي هذه الورقة التي تحاول قدر الإمكان الوقوف عند بعض تجليات التراث في القصة في المنطقة الشرقية، انطلاقا من بعض نصوص الموكب الأدبي في نسخته الثالثة. ولعل أول ما يلفت  انتباه المتلقي لهذه النصوص والمتتبع لهذا الموكب الأدبي هو التقاطع غير المقصود وغير المسبق بين موضوع هذه الورقة، والشعار الذي اتخذه الموكب الأدبي لهذه الدورة، "ألف قصة وقصة"، وليس هذا إلا ترسيخا لمبدأ الهوية التراثية في بعدها الحكائي الذي يحيلنا إلى كتاب الدهر في فن الحكي والسرد "ألف ليلة وليلة" الذي ترجم إلى جل اللغات العالية والذي يتخذه الكثير من كتاب القصة والرواية عموما مرجعا حكائيا أسلوبيا بامتياز. وانطلاقا من هذه المعطيات وغيرها سأصنف ورقتي هذه حسب المحاور الآتية:
1-  استدعاء  الشخصيات التراثية؛
2-  استدعاء التراث الشعبي
3-  استدعاء الأمكنة التراثية
في نصوص الموكب الأدبي "ألف قصة وقصة" في نسخته الثالثة
1-  استدعاء الشخصية التراثية:
إن من بين أهم مقومات السرد هي حضور الشخصية التي تلبس لباسا متعدد الخلفيات والمرجعيات تؤثثها رؤية الكاتب للنص، فالشخصية إذا بواسطتها يتبين فعل الحكي، وتتضح المحكيات عبر سلوكاتها داخل النص وحركيتها، وتحول نفسياتها وانفعالاتها، وحضور الشخصية التراثية داخل النصوص القصصية تكسب النص مجموعة من الامتيازات النوعية والفنية، فهي إضافة إلى حمولاتها التراثية، فهي بالتأكيد تكتسب دلالات معاصرة بلباس جديد، ويمكن لنا تصنيف الشخصيات التراثية في هذه المجاميع القصصية إلى أصناف متعددة من بينها:
1-1-الشخصيات التاريخية:
 لقد حضرت بعض الأسماء التاريخية في بعض نصوص الموكب القصصة، سواء العربي منها أم المغربي، وأيضا العالمي، ويمكن لنا أن نصنف هذه الشخصيات التاريخية إلى تصنيفات داخلية، فمنها ما هو سياسي ومنها ما هو أدبي ومنها ما هو تراثي. ونقف في هذا المقام عند شخصية تاريخية تم استدعاؤها في نص عبد الله زروال بعنوان" زحزحة القارات"، يقول: رنا إلى البحر قائلا:
لست طارقا، لست فاتحا، إنما أنا عاجز رمت به قلة الحيلة، 36
فالنص حديث عن طموح شاب يحاول أن يقفز إلى الضفة الأخرى من البر، مبديا ضعف قوته وعجز قدرته على  مواجهة الحال في بلاده، فلم يجد أمامه إلا التفكير في قطع البحر، وهنا وجد القاص نفسه أمام شخصية طارق بن زياد ذاك الفاتح للأندلس، إلا أن استدعاء الشخصية جاء في سياق مناقض لسياق الحد الأصلي، فإذا كان طارق  قد قدم رجلا وألحق الثانية بالأولى، فإن الشاب نفى عن نفسه أن يكون طارقا، ومن ثم فإن استحضار الشخصية كان ضمن سياق النفي لا الإثبات،
وقد وجدت هذه الشخصية مكانها أيضا ،وفي سياق مماثل، عند السعدية سلايلي التي انطلقت من موضوعة العقم الاجتماعي والسياسي الذي يعاني منه المجتمع المغربي، فتصور حالة مأساوية لمركب عليه ثلة من الشباب يسعون إلى المجهول، في نص "البحر وراءكم": فتتعالى أصوات الجيل المحاصر بالماء:"لماذا أحرقت كل القوارب يا ابن زياد؟.. قلت كلامك المعلوم البحر وراءكم، البحر أمامكم"49، فقد قامت الساردة بمحاورة طارق عبر شخصيات نصها، التي وجدت نفسها محاصرة بكثبان المياه المتلاطمة، فتحولت مقولة ابن زياد من "البحر من ورائكم والعدو أمامكم" إلى "البحر وراءكم والبحر وراءكم"
ومن التاريخ المعاصر نجد القاص عادل التكفاوي قد استحضر شخصيات سياسية تاريخية مجسدة في هيتلير وموسولوني، في نص "المناضل" وقد أسعفه هذا الاستدعاء في رسم بعض ملامح هذه الشخصية المناضلة التي تدعي الالتزام السياسي في مقال اختلالات أخلاقية متعددة،55
1-2-الشخصية الأديبة:
إن الأدب باعتباره خاصية إنسانية فإنه مفتوح على كل التجارب التي يسعى من خلالها القاص إلى إنتاج تجربته الإبداعية، وانطلاقا من هذا فإن بعضا من نصوص الموكب قد حفلت باستدعاء شخصيات أدبية إن على مستوى استدعاء الاسم أم على مستوى استدعاء بعض من لوازمه أو أقواله. ومن بين التقنيات التي وظفها بعض القاصين في استدعاء الشخصيات الأدبية نجد تقنية التصدير مع التصريح بالاسم كما فعل القاص محمد حماس في نص "رحيل السيد سين" الذي افتتن بنص عبد الرحمان منيف والذي يتقاطع مع موضوع القصة التي تتحدث عن روائي مهووس بالكتابة والإبداع ومراقبة الآخرين لنسج خيوط حكاياه، فكان التصدير "ربما كان علي أن أجعل كل جزء في حياتي يحوي جزءا من كل جزء في حياة الأناس الآخرين، كما في الرواية حيث كل جزء يتصل حيويا بالكل"16، وفي النص نفسه يستدعي الكاتب الأمريكي ارنست همنجواي الذي أبدع رواية "العجوز والبحر" فصوره وهو يحمل بندقية والده ويفرغ ما بداخلها في جوفه منتحرا، وباستخدام التقنية نفسها، تقنية الاستدعاء بالاسم، استحضر القاص ميمون حرش في "ريف الحسناء" الشاعر محمود درويش، في نص ثوري بامتياز، فالسارد يتحدث عن شخصية تتجول بين زقاق المدينة وشوارعها وهو يتصفح الأرامل والأطفال المتشردين، متأملا كل أنواع البؤس والغبن الاجتماعي لتجد نفسها تردد مع محمود درويش"أمشي وعلى كتفي نعشي" 79، فتتماهى الشخصية مع الشاعر وتعتبر نفسها ايضا معنية بالمعنى الشعري، "لست وحدك يا محمود"79، ومنه يتضح أن القاص قد استحضر الشخصية بالاسم، إضافة إلى استدعاء سطر شعري دلالته تستجيب لأفق الرؤيا الاجتماعية للنص القصصي، كما استدعى أيضا "موبي ديك"30 رواية الأمريكي هيرمان ملفل وهي قصة الحوت الكبير الذي حطم السفينة ودمر كل أجزائها، هذا الفعل التدميري والإجرامي هو الذي جعل القاص يستحضره في نص "ليس منا من يصالح منكم" حيث يسرد السارد قصة البطل وهو يتذكر جدته التي تكن كرها جامحا للبحر لأنه التهم زوجها الغالي، وتعتبر كل من تصالح معه ومع حيتانه وأسماكه متصالحا مع العدو مهما كان انتماؤه للعائلة، أما نور الدين كرماط فقد استدعى شخصيتين أدبيتين إحداهما غربية وتتمثل في الكاتبة الانجليزية أغاتا كريستي، والثانية عربية وتتمثل في الكاتب المصري نجيب الكيلاني، فإذا كانت الأولى متخصصة في الأدب البوليسي والكتابة الإجرامية، فإن نجيب الكيلاني هو الكاتب الملتزم بقضايا المجتمع والأخلاق إلى درجة تصنيفه ضمن مجموعة الأدب الإسلامي، حيث تستحوذ الشخصيتان الأدبيتان على فكر ذلك المهووس بالأدب والروايات، حيث تحضر الروح الفتية في روايات كريستي وتحضر الشخصيات الطيبة  والرغبة في التكوين الفكري في نصوص الكيلاني،14
ويبدو أن استدعاء الشخصيات الأدبية قد اتخذ منحى جديدا عند امباركي الذي جعل أحد شخوصه تنتحل صفة أحد عمالقة الفن الروائي في أمريكا اللاتينية "كولومبيا" والعالم كله، إنه ذاك المبدع الذي يتحدث عن انجازاته الأدبية وفتوحاته الروائية، معتزا بتوقيع روايته لإحدى المعجبات باسم "غابرييل غارسيا ماركيز"14. ويتبدى لنا ماركيز مرة أخرى في نصه "صبي في ليل البحر"47 حيث تتصفح الشخصية الساردة أحوال الناس في مدينة السعيدية ليلا، بعد أن تصفحت نهارا رواية "مائة عام من العزلة" التي تحكي عن قرية ماكوندو التي تغلغلت في أعماقه، فتبدت له القرية المنكوبة الفقيرة مجسدة في منظر صبي بئيس على رصيف السعيدية ليلا، وبتقنية المؤتلف والمختلف يستدعي أحمد العتروس فان كوخ، وأمل دنقل والحلاج في نصه "غرفة باريسية" حيث الشخصيات بأمكنتها الخاصة تدخل في علاقة تصادمية مع مكان الشخصة التي تعيش في غرفة في باريس، إضافة إلى استدعاء الشخصية باسمها، فقد تم اعتماد تقنية استدعاء الشخصية بأحد لوازمها، كالأقوال مثلا كما فعل محمد حماس عندما جعلنا نستحضر الشاعر امرأ القيس في قوله: تراجعت مرتعشة خائفة مثل أرنب كادت مخالب صقر هوت عليه من عل تنغرس بين أضلعه"21 ،
مكر مفر مقبل مدبر معا           كجلمود صخر حطه السيل من عل
والأمر نفسه عند نور الدين الصغير وهو يستحضر أحمد شوقي من خلال بيته المشهور:
قم للمعلم وفه التبجيلا       كاد المعلم أن يكون رسولا
إذ قال: "قام لهما وفاهما التبجيلا"60، مع اختلاف بل تناقض في السياق العام بين النص الشعري والنص القصصي.
أما المهلوس أبو نزار فقد استحضر الشاعر أبا تمام في بيته المشهور:
السيف أصدق أنباء من الكتب           في حده الحد بين الجد واللعب
من خلال عنوان نصه "الرقص أصدق أنباء من الكتب"

3-1-شخصيات تراثية شعبية:
نقصد بالشخصية التراثية الشعبية، تلك الأسماء التي بصمت بوجودها على المجتمع بمواقفها ومكانتها، بفعل أو سلوكات أو أقوال، سجلها المجتمع الشفهي فتحول إلى تسجيل تاريخي، ثم تحولت بعد ذلك إلى رموز ودلالات يستحضرها المبدع لأسباب فنية وموضوعاتية متعددة تستجيب والتجربة الإبداعية. ويصبح بذلك البحث في عمق هذه الشخصيات التراثية ، في الحقيقة، بحثا في عمق التاريخ والهوية الشعبية والمجتمعية. ومن بين الشخصيات التراثية الشعبية التي أرخت لحضورها في هذه المجاميع القصصية، والتي لا تزال المنطقة الشرقية تحتفظ بذكراها نجد"عمي بوجمعة البوكسور" الملاكم، الذي وجد فضاءه ضمن نص القاص خالد مزياني، فأهداه إلى الشخصية نفسها، يقول: "مرفوعة إلى روح عمي بوجمعة الملاكم، وجدة"117. أما النص فهو عبارة عن نوستالجيا، تعود بالذاكرة المتلقية إلى التاريخ الذي احتضن هذه الشخصية التراثية فيبدأ كلامه ب "كان بطلنا المفضل وربما بطلنا الوحيد"، فيخوض إذاك القاص في سرد تفاصيل عمي بوجمعة وحكاياته مع التي كانت حافلة بالانجازات. فحضور الشخصية هنا اتخذ بعدا سرديا حكائيا عنها، وتشهد الحلقة في باب عبد الوهاب عن تجمعاته رفقة محبيه ومرافقيه.
كما تحضر أيضا من ضمن الشخصيات التراثية الشعبية شخصية عيشة قنديشة، هذه الشخصية الحقيقية التي تحولت بفعل تنامي المحكيات عنها إلى شخصية أسطورية خرافية. وقد استحضرها القاص محمد حماس في نصه "موديل" معتمدا في ذلك على الصورة التي يستدعيها المجتمع، وهي صورة المرأة المخيفة التي تثير الرعب والفزع بمجرد ذكر اسمها، إلى درجة تحولت إلى جنية،جاء في النص:"قصتك تخيفني وتبعث الفزع في قلبي وهي تذكرني بعيشة قنديشة،، لالة عيشة المجذوبة،، مولاة الواد"23. فكتب التاريخ والمقاومة بالخصوص تشير إلى نضال المرأة المغربية وبسالتها في المواقف البطولية، من بين النسوة نجد عيشة، عائشة" التي عرفت بجمالها الفائق، وحفاظها على شرفها وشرف المرأة المغربية عموما، إلى درجة وسمت بعائشة القديسة، وقد طال اللحن لتصبح قنديشة، وربما السبب في ذلك أيضا راجع إلى أن بعض الروايات تقول أن عايشة كانت تقوم بتشويه صورتها وتزييف جمالها حتى لا تكون مطمعا للجنود الفرنسيين فيكتشفون ما تخفيه من أسلحة تزود بها المقاومين في السهول والجبال والوديان.
أما القاص ميمون حرش فقد استدعى في مجموعته "ريف الحسناء" شخصية تراثية تنتمي إلى زمن الحكاية الخرافية، إنها شخصية "الغولة ثامزا" وهي شخصية خيالية نسجتها الجدات الريفيات منذ الغابر من الأزمان قصد ترهيب الأطفال وتخويفهم إن هم حاولوا الخروج عن العرف، أو الإخلال بنظام التأدب وطقوسه، يقول "كانت تحكي بنبرة حزن غريب، لكن دون صراخ، ولا بكاء، الشاب كان يصيخ السمع كطفل يسمع حكاية جدته حول "ثامزا" التي كانت تأكل الأطفال الأشقياء"60، فحضور هذه الشخصية جاء في إطار تشبيه بين سياقين، إذ تشابهت وضعية الشاب المتلقي لقصة المرأة، ووضعية الطفل المتلقي لقصة الغولة "ثامزا",
2-استدعاء التراث الشعبي
إن قيمة الحكي تستمد من أمور عدة منها ما هو موضوعاتي ومنها ما هو أسلوبي، فإذا تم حبك الموضوعات بفنية عالية تمكن المبدع من الأخذ بتلابيب عقل المتلقي ووجدانه. وهذا ينطبق على الحكاية الشعبية التراثية التي تفننت جداتنا في سردها إن ترهيبا وإن ترغيبا، سواء غنائيا أم سرديا، والقاص علي عبدوس يبني نصه على بنية تراثية شعبية بامتياز تدخل القارئ من عنوان النص "الحاجة" إلى عالم مليء بالأسرار الشعبية والحكاية، فمن تراها هذه الحاجة؟ النص يقوم على وصف دقيق لتفاصيل عرس مغربي تراثي قائم على إيقاعات منبعثة من البندير، وتمايلات الجسد الأنثوي المتناغم مع الإيقاعات، هذه التفاصيل ما كانت لتتسرب إلى الوجدان إلا بوجود مقطع غنائي شعبي يرسم تفاصل قصة شعبية تراثية يقول مطلعها:
شربنا من راس العين....منين كان الما زين
منين كثرو ليدين.....تخلط الما والطين 70
ودائما مع التراث الشعبي الغنائي فان القاص عبد الله زروال يجعلنا أمام أغنية شعبية راقية تدخل في إطار الغناء الملتزم الذي خطته مجموعة ناس الغيوان لنفسها، وهو خط الالتزام بقضايا المجتمع وهمومه الحياتية المعيشية، والتي رددتها ولا تزال ترددها إلى الآن  الأجيال المتلاحقة:
"يا أهل الحال
امتى يصفى الحال"37
لكن القاص  قد قام بتحوير القضية من موضوعة اجتماعية سياسية إلى قضية شكلية ترتبط بمظهر الشخصية وهي تتطلع إلى نفسها في المرآة وقد انتشر البياض وطغى على السواد، مما يفتح المجال أمام تأويل الدلالة بين المقطع الغنائي والحالة النفسية والاجتماعية للشخصية،
وضمن التراث الشعبي أيضا، يعود بنا عادل التكفاوي إلى مرحلة الطفولة والمراهقة عبر سمفونية الزهرة التي كانت تفقد في كل لحظة وريقاتها بدافع معرفة الحظ،، سأنجح، لن انجح،، تحبني، لا تحبني،، يقول القاص مستحضرا هذا الفعل التراثي الذي ربما لم يعد الجيل يعرفه بفعل تنامي الظواهر الالكترونية الحديثة، "محظوظ ،،، لست محظوظا،،،"يا فم تلعثم واخطئ النطق، يا زهرة اكذبي،"49، وأما المهلوس أبو نزار فقد استدعى مثلا شعبيا وجعله العتبة الأولى لنصه المعنون ب "الفقيه وبراكتو" حيث بنى نصه على شخوص ذات طابع تراثي بامتياز، سواء تعلق الأمر بالأسماء أم بالأوصاف أم بالحمولات المعرفية والفكرية، الفقيه ، البراح، والأمر نفسه بالنسبة للغة النص التراثية ، "ما تسمعوا إلا أخبار الخير، وهي تعود بنا إلى أيام البراح الذي كان يعتبر بمثابة ما يصطلح عليه الآن بالناطق الرسمي.
4-استدعاء الأمكنة التراثية:
المكان في العمل الإبداعي ضرورة فنية وجدلية، وهو يتخذ أبعاده من خلال علاقته بالعناصر الأخرى المكونة للعمل الأدبي، مثل الشخصية والحدث، والموضوع. في هذه المجاميع القصصية تنوع المكان وتوزع عبر تيمات مختلفة، إلا أن المكان التراثي قد حضر بقوة، ولعل أول مكان يؤكد حضوره في نص ينتمي صاحبه إلى الجهة الشرقية هو "باب سيدي عبد الوهاب وساحته" التراثية التي عرفت عبر التاريخ باعتبارها حاضنة لأهم مقوم من مقومات فنون الفرجة وهي الحلقة، باب سيدي عبد الوهاب الذي لا يزال صامدا، إلى جانب باب الغربي، وشامخا في وجه التحولات العمرانية المهيبة، وقد استحضره كثير من القاصين في هذه الأعمال، وإذا عدنا إلى شخصية عمي بوجمعة، فإنه كان مرتبطا بالباب وساحته، باعتباره الفضاء الذي كان يمارس فيه طقوس الحلقة والملاكمة الفرجوية، يقول خالد مزياني، "لا زلت أذكر باب عبد الوهاب، الحلقة وأبطالها التي تركت بغيابها نهائيا شرخا وفراغا في الهوية الوجدية"118 هذا المقطع يجعلنا نقف عند العديد من الدلالات المتعلقة بالمكان، فهو مكمن الهوية الوجدية، وهو تاريخ المدينة، ومكان تجمهر الناس ، وهو مكان الاستمتاع، وهو أيضا مكان لكسب القوت اليومي، والباب هو المنفذ إلى الداخل وهو أيضا السبيل إلى الخارج، فهو الملاذ وهو الانفتاح ايضا، وهو مكان الحلايقي الذي تسلح بكل أنواع الحكي والسرد وتقنياتهما، مازجا ذلك بحركات جسدية خفيفة رشيقة مموجة بإيقاعات موسيقية تراثية بآلات قديمة، فيبهر ويمتع المتفرج الذي يجود ببعض الدريهمات بطريقة عفوية لا غصب فيها، وهو المكان نفسه ايضا التي استحضره القاص نفسه في نص سابق  عنوانه"لا جديد تحت السماء"112.
أما القاص محمد حماس، فقد استحضر مكان شبيها له إن لم نقل هو المكان نفسه والطقوس نفسها ولكن في مدينة مراكش، إنه "جامع الفنا" حيث يستدعي هذا المكان في حديثه عن السيد سين" وهو يطل من برجه المعزول على ساحة جامع الفنا، التي تعج بالخلق في حركات متنافرة ومتصارعة ومتآلفة ومنسجمة، تتعالى صيحاتهم، يقول:"ثم ينهض يغادر مكتبه يحضر بعض القهوة ثم يقف قبالة النافذة المطلة على جامع الفنا" بينما أكتفي بالنظر إليه من مكاني،،،، انظر إلى كل هؤلاء القوم إنهم يختزلون واقعهم كله هنا في هذه الساحة..."19-18


خلاصات وملاحظات:
إن التراث إذاً، هو هذه المرجعية التي يستمد منها القاص المبدع رؤيته للنص وللمجتمع على حد سواء، والنصوص التي كانت مجالا للدراسة هي جزء من مجموعة قصصية توزعت وتنوعت. انطلاقا مما سبق يتضح أن المبدع المغربي لا يزال يربط صلته بالتراث على اختلاف أنواعه، والسبب في ذلك راجع إلى مجموعة من العوامل. لقد أفضت بنا هذه الدراسة إلى رصد مجموعة من الملاحظات من أهمها:
ــ  توظيف التراث في النصوص القصصية كان نتيجة رغبة القاص في  في إكساب النص القصصي صبغة الأصالة والانتماء المحلي والأدبي والفكري؛
ــ  إن العودة إلى توظيف التراث هي عودة إلى الهوية سواء في بعدها المحلي أم العالمي؛
ــ  تنوع استدعاء الشخصيات الأدبية والشعبية والتاريخية مابين استدعائها بالاسم أو بأحد قرائنها كأقوال أو أفعال ؛
ــ  استدعاء الأمكنة التراثية، إضافة إلى استدعاء الحكاية الشعبية والأغنية التراثية والأمثال الشعبية ايضا؛
ــ تنوع صيغ توظيف التراث وأساليب استدعائه، بين التوظيف السطحي،والتوظيف العميق لإكسابه معاني جديدة ودلالات مستمدة من روح الواقع المعيش، زيادة على توظيف اتخذ بعدا نوستالجيا تذكريا،
ــ بعض الشخصيات التي تم استدعاؤها ثم توظيفها بشكل  عكسي لا ينسجم مع صفاتها الأصلية والسبب في ذلك راجع إلى رغبة المبدع في إكساب الشخصية بعدا فنيا موضوعاتيا مناسبا لروح العصر.

الاثنين، 1 يونيو 2015

"الفضاء وتجلياته في القصة القصيرة بالجهة الشرقية"..


"الفضاء وتجلياته في القصة القصيرة بالجهة الشرقية"..

عنوان مداخلة الدكتور محمد الدخيسي في " الموكب الأدبي"

، اليوم الثاني 30/5/2015

تقديم:
قبل البدء لا بد من تسجيل ملاحظتين أساسيتين:
أولهما متعلق بالعنوان، إذ يُعتبر الحديثُ عن الفضاء المكاني في النص القصصي أمرا مفروغا منه، لأنه عنصرٌ أساسٌ في تقديم الحكي.
ثانيهما تقني، لأن الاشتغال على نصوص الكترونية (على الحاسوب) -بحجم إحدى عشرة مجموعةً قصصية بما فيها مجموعتين مشتركتين بَيْنَ عددٍ لا يُستهان به من المبدعين- مهمةٌ صعبة، لذلك استعنتُ في بعض الأحيان ببعض النصوص للمبدعين أنفسهم من أعمال منشورةٍ سلفا.
يمكن أن نطرح أسئلةً جديرة بالتقديم والمناقشة، أسئلةً هي من بوح القارئ العادي والمتفحص للإبداع القصصي العربي، مارسَتْ حضورَها الفعلي من خلال قراءةِ أعمالِ الموكب الأدبي في نسخته الثالثة 2015، ومارسَتْ حضورَها الفعلي أيضا من خلال قراءات هامشية للإبداع الأدبي عامة.
ما جوانب اللقاء بين الفضاء أو الحيز المكاني بين الشعر والسرد (القصة القصيرة خصوصا)؟
ما خصوصية الفضاء المكاني في إبداع الجهة الشرقية من خلال النماذج المقترحة؟
نشير أولا أن النماذج المدروسة هي مخطوطات لأعمال ترى النور موازاة مع هذه القراءة، وهي لكل من:
بديعة بنمراح: علمتني امرأة
حسن بنمومنة: كمائن وفخاخ
محمد حامدي: أخاديد جبل الفحم
ميمون حيرش: ريف الحسناء
محمد العتروس: امرأة تقرع باب الله
رشيد قدوري: هكذا جُنَّ قلمي (هلوسات ساخرة)
سعيد كفايتي: أحمد الذي يطير
مريم لحلو: هسيس المساء
محمد مباركي: غيبوبة على مطر ساخن
المجموعة القصصية الخاصة بالشباب: موكب الهزارات
المجموعة القصصية الخاصة بالمبدعين الذين سبق لهم النشر: أقواس قصصية
1- ملاحظات أولية:
أولا: بين الشعر والقصة علاقةُ إبداع، غير أن الفضاء في الشعر مَتَحَ من القضية الأساسية التي تشكلُ غربةَ المبدعِ في مكانه انطلاقا من مسلمات ذاتية أو اعتباراتٍ موضوعية خضَعَتْ لِغُربة إليوث وجَعَلَتْها ركنا مبدئيا. لذلك نجد الشاعرَ يخترق المكان ليجعلَه غربةً ذاتية، في مقابل القاص الذي لم يجد فيه إلا فضاء أو حيزا يخترق به أحداثه. من هنا كان المكان ذا بعد وظيفي في الشعر بخلاف السرد الذي يمثل فيه الوسيلة والعنصر المهم في تشكيل الحبكة.
ثانيا: طبيعة اللغة بين الشعر والسرد تُحَلِّقُ بالشاعر إلى انزياحات وتحولات في المعنى، في حين يحافظ القاصُّ بشكل أكثرَ بروزا على معيارية اللغة، إلا ما جاء مرتبطا بشعريتها النصية.
ثالثا: يجعل القاص من المكان في بعض النصوص قضيةً محوريةً من خلال قضية الإنسان المرتبطِ بها، مثل أشكال مقاومة الإنسان ضدَّ العنف أو الاحتلال أو الاستعمار وغيرها.
رابعا: حضور قوي لعلاقة المدينة والقرية في السرد، مما يوثق لعلاقة المبدع بالمكان، وهنا نستطرد قليلا لنُعَرِّجَ على شكل السيرة وبعضِ صُوَرِ تقريب المتلقي من مشاكلِ الهجرة سواءٌ منها المحلية (القروية) أم الدولية (السرية أو المشروعة).
خامسا: ارتباط أغلبِ القصاصين بوطنهم عامة ومدينتهم خصوصا، في حين يكون الحديث عن المدينة باعتبارها فضاءً عاما؛ وهنا نصل إلى منشورات الموكب الأدبي في نسخته الثالثة، حيث نسجل أن عملية الانتقاء كانت مركِّزَةً على جمعِ نماذجَ لأسماء من الجهة الشرقية عامة: وجدة وبركان وجرادة وتاوريرت والناظور مع تسجيل غياب اسم بارز في فكيك أو ممن غاب عن وطنه مهاجرا، ولعل في هذا الاختيار ما سيساهم في إبراز خصوصيةِ اشتغالِ كل مبدع مع بلدته مع تسجيل غيابِ هذا التوظيفِ عند أغلب المشاركين، وحضورِه بشكل بارز خاصة مع محمد حامدي وميمون حيرش وخالد مزياني..
2- الفضاء المكاني: الارتباط العضوي والعاطفي
ليس غريبا أن تتشكل علاقةٌ وطيدةٌ بين المبدع والمكان الذي ترعرع فيه فَسَمَتْ فيه عواطفُه وأفكارُه؛ غير أن اللافتَ للانتباه خلال اطلاعي على الأعمال المنشورة هو الترابطُ الشديد بين القاص ومدينته حدَّ الهوَس والتعلق. وسأقدم في الحيز نماذجَ تقريبيةٍ.
2-1- أخاديد جبل الفحم لمحمد حامدي:
مزج المبدعُ في هذه المجموعة بين الشخصية الرئيسية التي تؤثِّثُ القَصَصَ، والمكانِ الذي اختاره أن يكون جبل الرومبلي المعروفِ في جرادة دليلا على قوة الشخص من كل النواحي الفكرية والجسدية والنفسية وغيرها، نأخذ مثالا من ثلاثِ قصص:
"من لم يشمَّ رائحة الرومبلي فهو مطرود من رحمة المدينة" هكذا حدثني جدي ذاتَ ليلٍ بارد قد كان تجمد فيه كلُّ شيء ودمْدمَتِ الريحُ بَيْنَ سَكَناتِ القرية المهترئة." (النص الأول: برتقال واحتراق)
"من لم يتجول بين بقايا أخشابِ وصفائحِ الرومبلي، فلن يتحسَّنْ تعبيرُه أبدا، هكذا قَرعني معلمُ الصف الخامسة يوم كتبتُ إنشاءً حول نزهةٍ في الشاطئ." (النص الثالث: شاطئ وطوب)
"من لم يتمتع بإطلالة الروبلي تحت القمر لن يعرف للعشق سبيلا، هكذا قال لي صديقي يوما وهو يَغْرِزُ عُقَبَ السيجارة في مِعصمِهِ الأيسرِ." (النص الرابع: عشق وشهادة)
فمهما تعددت السبل، فالطريق إلى جرادة واحد، والمكانُ متفرِّدٌ ومتميز حسب ما تقتضيه ضرورةُ النص أولا وعشق الكاتب ثانيا لفضائه من حيث جمالُ المدينة، وقدسيةُ الجبل وتفردُ الأمكنة.
2-2- ريف الحسناء لميمون حيرش:
إذا انتقلنا إلى نموذج ثان؛ سنقف عند القاص ميمون حيرش مع مجموعته القصصية القصيرة (ريف الحسناء)، فالظاهر أولا تركيزُه على منطقة الريف، ثم إضافتُها إلى الحسناء، ومن ثمة تخصيصُه النصوصَ لحيز مكاني بصيغة المؤنث الحسناء. لذا نقرأ في نصه المعنون بالصيغة ذاتها: "كررَتْ "ريف" العبارةَ بهَمْسٍ أكثرَ من مرة حين عَجَزَتْ عن فهم حقيقة الذي حصل لبلدتها الصغيرة التي حولتْها الأمطارُ إلى مجرد دمار، وإلى مدينة غارقة في الوَحَل والماء، الأشغالُ التي راكمَتْها في الأشهر الأخيرة، وبسرعة فائقة، لم تكن سوى نَقْطِ عَروسٍ ليس إلا، استفَاقَتْ، بعدها، فإذا دنياها كما يعرفها أهلُها، لا جديدَ تحت شمس الريف."
فلفظة الريف تتكرر مرتين في الفقرة الأولى من القصة، فهي الحسناء ريف، وهي الريف المكانُ؛ لذلك لا نستطيع الفصلَ بينهما باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الكاتب ذاتِه، وخصوصيةٍ تجعله يَتفردُ بتنويعِ ارتباطِهِ بالمكان دون قيد أو شرط. لأن الإنسان مجبول على حب أرضه وبلدِه، ولولا هذا الحبُّ لما استطاع أن يُفَتِّتَه في نصوصه الإبداعية وأن يجعلَه أساسَ التحول، يقول في النص ذاته: "لو يُخلِصُ الإنسانُ للأمكنة، وللأشخاصِ لرَحُبَتِ الأرضُ ولمَا حرَنَتْ، ولأَنْبَتَتْ قلوباً خضراءَ تَتَعَرَّشُ في الصدور.." وقد جاء ذكرٌ لبعض المدن كالناظور وبين انصار، أو أماكنَ عموميةٍ كالمقهى، أو المقاهي التي أصبحت تتناسل بالناظور.. ومن المفارقات أن المجموعة القصصية القصيرة جدا (نجيُّ ليلتي) لميمون حيرش خلَت نهائيا تقريبا من أيةِ إشارة للمكان العام.
2- 3- خالد مزياني والارتباط بوجدة ومعالِمِها وشخصياتها:
تَرَكَّزَ اهتمامُ خالد مزياني في قصِصِهِ المنشورةِ ضمنَ (أقواس قصصية) على مدينة وجدة ومآثرها الحية النابضة وسطَها، كبابِ سيدي عبد الوهاب والجوطيةِ قديما والأماكنِ التي كانتْ تجمَعُ فرسانَ "الحلايقي" بكل الأصناف وفي جميع الاتجاهات. لذا نجدُهُ يُقَدِّمُ صورةً حيةً لواقع مضى ولم تبقَ منه إلا بعضُ الذكريات. يقول في نص (لا جديد تحت السماء): "خلف أسوار مدينةِ وجـدةَ الجميلةِ. العريقةِ. وسطَ المدينة المزدحمِ. تحديدا ساحة باب عبد الوهاب. الصخَبُ.. الحَرُّ.. الأوراقُ المتناثرةُ هنا وهناك.. الجمهورُ بعضُه صامت والبعض الآخر من شيوخه.. شبابِه.. أطفالِه يتوسدون جِدارَ الحديقةِ القصيرَ، حتى صار واحدا منهم. ليبقى الشارعُ الوجدي يحتضنُ كلَّ الجراح.. جراح الكبارِ.. الصغارِ.."
ونشير هنا إلى حضورِ الحلقة أيضا وهي رمزٌ لوسَط مدينةِ وجدةَ وغيرِها من المدن عندَ كثير من المبدعين، كنور الدين الصغير في قصته (الحلقة) ضمن المجموعة القصصية ذاتها، أو غيره..
2-4- غيبوبة على منظر ساقط لمحمد مباركي:
يتحول الفضاء مع محمد مباركي إلى تيمةِ الارتباطِ بالماضي وتوقِهِ إلى ذكريات عاشَها في أماكنَ عِدَّةٍ؛ إذ لو عدنا مثلا إلى مجموعته (الرقم المعلوم..) نجد حديثه عن الكُتَّاب والحي القديم بفروعه وأزقته وممراته ووقائعه والقرية.. لذلك يبدأ مجموعتَه الحالية (غيبوبة على منظر ساقط) بتناولِ المدينةِ الشاطئية (السعيدية) بأوصافَ تركِّزُ على مظاهرِ التفسخِ وتدني الجانب الخُلُقي مع وَضْعِ مفارقات بين معاملةِ أهلِ البَلَدِ والسُّواح. فيورِدُ مثلا لقاءً بين كلب سائح وآخرَ ضالٍّ بالمدينة: "غافلَ "سوسو" سيّدتهُ في صبيحة اليوم الموالي وهرب من الفندق، واتّجه إلى هوامشِ المدينة، حيث كان قد شاهدَ تلكَ الكلابَ الضّالةَ. وقف مُتوجّسا يُراقبها، وهي منهمكةٌ في اللّعب... شاهَدَتْهُ، فَجَرَتْ إليه وتَحَلّقَتْ حوله. تَشَمَّمَتْهُ وعطستْ بشدّة. سألهُ كبيرُها: "من أنت؟"." (قصة: كلبنة) ونسجل هنا حضورَ قصةِ الكانيش في مجموعة (هسيس المساء) لمريم لحلو بطريقة تُكَلْبِنُ (إن صحَّتْ هذه الصفةُ) فيها بعضَ الأجناسِ البشرية.
كما أنه يفرضُ سلطةَ المكانِ، فيحولُه من حيزه إلى أبعدِ نقطةٍ يمكن أن يصلها، معتمدا في ذلك على نظريةِ زحزحةِ القارات، لكن بصورة تخييلية يجعلُ المغربَ يتمَوْقَعُ بينَ عَشِيَّةٍ وضُحاها في المحيط: "فتحتُ جهازَ التّلفازِ على القناة الوطنية، طالَعَني مديرُ مصلحة الأرصاد الجوية بوجه شاحب، وصَوْتٍ يقطّعُهُ الفزَعُ ممّا كان يقرأ على اللّوح الإلكتروني، ويَدُه ترتجف على خريطة بلادي. سابحةً في المحيط الأطلسي في غير موقعها من شمال غرب إفريقيا." (قصة: هل تتغيرُ الجغرافيا) لكن المحيطَ جفَّ عند مريم لحلو في مجموعتها (هسيس المساء) حيث تقول: "جفَّ المحيط الأطلسي، تحولَ إلى حفرة كبيرة يلهو فيها الأطفالُ.. مَلِيء بالدِّلاء الفارغة وبالكُرات المفشوشة وبالقطعِ النقدية القديمة الباهتةِ الصُّفْرَةِ وببعضِ الهياكلِ العظمِيَّةِ البشرية التي أتى بها الريحُ من حُفرة الأبيض المتوسط.." (قصة المحيط)
2-5- هسيس المساء لمريم لحلو:
مع هذه المقارنة نعود إلى القاصة مريم لحلو في (هسيس الماء)، وما يمكن تسجيلُه حول اشتغالها بالحيز المكاني هو تأثُّرُها العميقُ بالأفضية القديمة لكن من جانبها الاجتماعي فقط، فتذكُرُ أحياءَ أو أمكنةً أو دروبا أو حماماتٍ وغيرَها بكثيرٍ من التفصيل، لأنها عايشَتِ المرحلةَ، وعاشَتْ تفاصيلَها مع صَبِياتِ الحي ورفيقاتِها، فتَتَذكرها وتَذْكر بها من يقاسمها اللحظات، وهذا الأمر نلحظه في مجموعتها السابقة (ضحك كالبكاء) ونسجل حضورَه القوي في هذه المجموعة كنص (حمام بوسيف) مثلا، أو في كثير من نصوصها المنشورة.
2-6- هكذا جن قلمي لرشيد قدوري أبي نزار:
بغض النظر عن جنس النص، واعتبارِه يندرج ضمن نسق جديد قد نختلف فيه أو نتفق؛ غير أن المهمَّ من خلال هذه التغطيةِ اكتشافُ حضورِ الفضاء في بعض خلفياته، لأنه يُشَكِّلُ مَسْرَحَةً لقضايا وأحداثٍ منوعة، تتوزع عبرَ شخصيات حقيقية وأخرى مجازية، وبينَ حيز مكاني معروفٍ تارة ومتخيَّلٍ تارة أخرى.
يحضر المسْجدُ في نصوص أبي نزار والحيُّ والمدرسة والمنزل والدكان والحارة الصغيرة وغيرُها، وما يلفِتُ النظرَ هو التركيزُ أكثرَ على القُفلة التي تؤثث فضاءَ النص أكثر من اهتمامه بالفضاء ذاته. نقرأ في نص بعنوان ( أنا والهلوسة): "ماذا لو خطرَتْ ببالِكَ فكرةُ اللقاء -مجددا- بجميع الأصدقاء الذين عرَفْتَهُم عبرَ مسار حياتك.؟! مِنَ الذين بصموا طفولتَكَ بمشاغباتهم.. إلى الذين شاركْتَهُم أجواءَ اللعب في فضاء الحارة الصغيرة.. إلى الذين بادلْتَهُم الخِصامَ والتصالح في اليوم نفسه.."
بعد هذا العرض العمودي لبعض الأعمال التي نصبت اهتمامها للفضاء المكاني؛ نصل إلى أهم الاستنتاجات:
أولا: ارتباط المكان/ الفضاء بالشخصية الرئيسة في النص القصصي، وذلك من تداعيات التعالق العاطفي وسلطةِ المدينة/ الأصل، أو المدينةِ/ المنشأ، وهو دليل أيضا على اعتبار الفضاءِ المكاني أسًّا في بناء النص القصصي القصير.
ثانيا: ارتباط المكان/ الفضاء بالحدث في بعض النصوص مما يؤرخ لواقعة حدثَت بمكان معين، أو ذكرى جعلت المبدعَ يُخَلِّد المدينةَ أو الحيزَ المكاني ويجعله بناء مهيمنا في صيرورة حياته أو صورةً لحياة متخيَّلَةٍ.
ثالثا: حضور أمكنة مشتركَةٍ بين القصاصين مما ينبئ بأهميتها من جهة، وتركيزِ الاهتمام عليها، إلى درجة اقترانِها بالمبدع.
3- خصوصيات الفضاء والقواسمُ المشتركة:
تشترك المجموعات القصصية المدروسة في كثير من القواسم التي جعلتنا نُقِر أنها خصوصيةٌ مثبتَةٌ بالدليل الموضوعي والقرينةِ السياقية في النصوص، ونشير هنا إلى كونِ المدينة بصفة عامة حيزاً له حضورُه القوي، ولعل من وراء ذلك رؤيةَ المبدع وتوقَه إلى كسب المكان دلالةَ الانتماء والانتساب والهروبِ من الواقع.
3-1- المدينة ورمز الوجود:
تتحددُ رمزيةُ الوجود الخاصةِ بالمدينةِ من خلال تتبع المبدع لأفضيةِ المدينة أولا، ثم بذكر المدينة ثانيا؛ وهو المقصود لدينا، إذ نبحث عن هذه الخصوصية ومميزاتِها.
نقرأ في قصة (ظل امرأة) لمريم لحلو قولَها: "افترشَتْ رُخامَ عتبةِ البنك التجاري المغلَقِ، تتأمل في هدوء المارةَ كأنها فلاحةٌ تزور المدينة لِتَكْرَعَ من مباهجها ثم تعودُ فَرِحَةً إلى بقراتها"، وهي إشارة واضحة إلى علاقة المدينة بالقرية، من خلال زيارةِ القرويةِ للمدينة ودهشتِها أمام الأضواء والمحلات والمؤسسات الإدارية... وقد يُحسُّ المبدعُ بالغربة الذاتية وهو يزور مدينةً بحجم العاصمة، فلا يألفُ منها إلا الوجوهَ، أما الضجيجُ والصخبُ فلا يزيدانه إلا ألما وحسرة، وتوقاً إلى عالم الفضاء الواسع في القرية أو المدينة التي لا تحْملُ من سمات المدنية إلا اللقبَ، يقول علي عبدوس في نص قصصي بعنوان (ضجة العاصمة): "في العاصمة ضجةٌ عارمة.. كالعاصفة. أعدْتُ الإصغاءَ إلى ما حولي.. بحاسة سمعٍ مُرهفَة، اكتشفتُ طَعما خاصا للزحام واللَّغَط.. أُصِبتُ بالصمم، ولم أعدْ أسمَعُ شيئا على الإطلاق." بمعنى أن ما أحسَّتْ به بطلةُ لحلو لم يَكُن إلا انعكاسا لرؤية قبلية منبعِثَةٍ من المتعارفِ عليه لديها، لأن المدينةَ نفسَها لم تكن إلا قريةً بالنسبة لعبدوس حينَ سافر بطلُه إلى الرباط.. من هنا نقول إن مقولةَ المدينةِ/ القريةِ تبقى نسبية تخضع للعامل النفسي أولا ولدرجةِ الانتقال من مكان إلى آخر. وقد يُحس المرءُ بالغربة أيضا حين ينتقلُ من مدينة إلى أخرى فيجدُ ما لا يَمُتُّ بصلة إلى الحضارة الحقيقة، وهذا الأمر نلاحظه لدى محمد العتروس الذي يقيمُ مقارنةً بين نساء مدينةٍ ما في وطنه افتَقَدْنَ رمزَ الأنوثة، ونساءٍ أوربيات حافظنَ عليه وإن مارسن حريتهن، يقول في قصة ( النساء): "كنت أدرك أني دخلْتُ المكانَ الخطأ، أنا الذي لم يكن لِتُرْبِكَهُ نساءُ باريس ولا لندن ولا فينيزيا ولا أمستردام.." بالرغم من أنه كان يحس بغربة مكانية شاعرية تزيد من همومه وتُقَرِّبُهُ من مصيره المحتوم، يقول في نص (الغرفة الباريسية) في مجموعته (امرأة تقرع باب الله): "وَمِثْلَ أملٍ تُصارِعُ البياضَ، تعاندُ الفناءَ وتنتفِضُ من غفوتِك لتفتحَ لكَ صفحةً في الغرفة الباريسية". كما نجد عند نجاة قشو الرؤيةَ ذاتَها حينَ يحضرُ التخيُّلُ وتتيهُ الشخصيةُ في فضاءات لا تناسِبُ حياتَها، فيكون المهاجرُ إلى باريس تائها لا يحاكي ما تشترِكُ فيه المجتمعات هناك، تقول في نص بعنوان (قروي في باريس): "قلبُ باريس.. ها هي ذي مقاهي (الشانزلزيه)، حيث فنجانُ القهوة بِطَعم التَّرف.. وحيث لا يحلُم أمثالي بمسح أحذية السادة.. فاغرَ الفم، مشدوهَ النظرة؛ أطالعُ من زجاج النافذة.. دنيا ثَمِلَةٌ بالترف.." لكن تنتهي الرحلة برفْسٍ من النعجة التي كانت تقبَعُ أمامَ البطل فيصحو من حلم لم يكنْ لينتهي.
وقد نصادف أيضا حديثا عن مدينة كئيبة يَحْكُمُها منْ يجْهَلُ القانونَ وهو يمثله، وتحتَلُّها وجوهٌ لا تدرك قيمةَ الكلمة، يقول الحسن بنمونة في مجموعته (كمائنُ وفِخاخٌ قصصية): "القاضي الذي عَمَّر طويلا في هذه المدينة الكئيبة استطاع أن يملأ السجونَ بالساكنة، وهذا يرجع إلى التطبيقِ الفاضلِ للقانون الذي لا يُفَرِّقُ بين صغير وكبير ، أو بين غني وفقير."
إذاً، هذه بعض النماذجِ التي اخترتُها لتكون دليلا على ارتباط المبدع بالمكان عامة والمدينةِ بوجه الخصوص، سواء بالقَبول أم الرفض.
3-2- المقهى ورمزية اللجوء:
تعد المقهى أهم ملجإ يمكن أن يُدَثِّرَ أهوالَ الإنسان، ويُجيرَه إلى الفضاء الذي ينسى فيه الهموم، ويقتربُ من أحلام المارة والجالسين، ويحكُمُ على نفسه بلجوء استثنائي. وقد نجدُ هذه التيمةَ في الشعر كما تحضُرُ في النص السردي والقصصي خاصة. وقد استقصيتُ الأمرَ فوجدته بارزا في كثير من النصوص.
يستطردُ كثيرا ميمون حرش في وصف المقهى في نص (ولنا في المقهى مكان)، ويجعل منها المبتدأَ والمنتهى، وبها تتزين مدينةُ الناظور التي تناسلت فيها المقاهي بسرعة وكثرةٍ لا تقاوَم، يقول: "مقهىً جديدةٌ اسمُها فانكوﭬر رَسَتْ بمحاذاة شارع "طومعتيش"، يقال إنها مَخْمَلِيَّةٌ، وخطيرة.. وهناك أيضاً داوليز، وسيدني، وغوغول، وأخرى في طور الانجاز... المقاهي تتناسل في الناظور.. مدينتُنا تتغير."
لكن ماذا يمكن أن نجنيَ من ورائها إلا الفقرَ والتهميشَ وكلَّ أنواع التشرد والتشرذم: "فلينظروا إلى الفقر في شوارع المدينة، وإلى غلاء المعيشة، وإلى العاطلين فيها، وإلى الأُسَرِ المعوزة، وإلى البِناء العشوائي..."
وهذا ما عبر عنه سعيد كفايتي في قصته بعنوان (عود على بدء) في مجموعته (أحمد الذي يطير) حين وجد نفسَه وسَطَ مقهى لا تُذَكِّرُه إلا بالبِطالة يقول: "في المقهى شرِبْتُ دُفعةً واحدة كأسَ قهوةِ "إكسبريس"، أحسسْتُ بالغُبْنِ لأني أصبحت عاطلا، وتغرغَرَتْ عينايَ بالدموع واختلَطَتِ الصُّوَرُ في ذاكرتي وبَذَلْتُ جهدا جبارا لكي أبكيَ كطفل فَفَشَلْتُ." أو كما عبر عنه محمد عزوز بفراغ المكان وفراغ الوقت الذي لا يزيد البطلَ إلا حزنا وألما: "في لحظة ما ساد هدوءٌ تام فضاءَ المقهى، فتمكَّنَتْ أذناه من استنشاقَ موسيقى هادئةٍ تصْدُر من التلفاز، نبراتُ (الباينو) الخفيفَةُ عمَّقَتْ شعورَه الحزينَ، وَضعَ كفَّهُ على جبينه وراح يقيس حرارةَ الفراغ التي في ذهنه، عبْر جدرانِ المقهى وكراسيها وطاولاتِها.."
غير أن المقهى تصير في بعض الأحيان نقطةَ لقاءٍ وتعارف، كما تكون أيضا مَدعاةً لتساؤلات عدة، وهذا ما نجدُه عند عبد القاهر الحجاري مثلا في نص بعنوان (جاليلي): "في المقهى دخانُ السجائر ضبابٌ.. أنفاسٌ مخنوقة. رجل أنيق يحتسي قهوةً سوداء.. تطلَّعَ إليَّ بنظراتٍ شاردةٍ.. قام من مكانه.. دَلَفَ نحوي.. وسألني..." أو كما جاء عند نور الدين الفيلالي في قصته (لوم) حيث تتبدى العلاقاتُ الإنسانية حين يطفو على السطح هاجِسُ التفوُّقِ الإبداعي أو ما يتركه فعلُ الطبع والنشر، يقول: "جالَسْتُهم في المقهى، نظرتُ إليهم للحظات دون أن أكلمهم، خاطَبَني "صديقٌ": أيُّ رواية تقرأ هذه الأيام؟
قلت: تكفيني أعمالُكم التي فاقتِ الخيال."
وما نشير إليه أن تيمة َالمقهى لم تتوقف عند الرجل بل تحضُر أيضا لدى المبدعة المرأة، وحسبُنا القولُ إن الإبداع لا يفصِلُ بين ذكر وأنثى، ما دام الإبداع إنسانيا معبِّرا عن الأحاسيس والمشاعر والقضايا. تقول أمنة برواضي في قصة قصيرة جدا بعنوان (المقهى): "ذهبَ في اتجاه المقهى التي لا بديلَ عنها في مدينة كهذه، تلقَّفَتْهُ نظراتُ روادِّها الثاقبةُ تتفحصه بدقة متناهية، استشْعَرَ لهيبَها يَلسَعُه، بادَلهم النظراتِ خوْفَ أن يتحول إلى رماد." وهي نظرة لِصدى فِعْلِ المقاهي وما يتوارى خلفَها من نظرات التفقد.
إلى جانب هذه الفضاءات المشتركَةِ نشير إلى أخرى تحضُرُ بقوة لكن بأشكال مختلفة ودلالات متنوعة، لسبب بسيط هو أنها فضاءاتٌ واسعة غيرُ محدودة، ونقصد من وراء ذلك أن المبدعَ لا يختار مكانا خاصا لنصِّه أو لبطله وإنما يجعله مفتوحا على كل التأويلات، وكل الاستنتاجات المقبولة أو المحتمَلَةِ. ولعل الأمرَ ضرورةٌ ملحة لِجَعْل النَّصِّ مِلْكَ المتلقي الذي يبحث فيهِ عن ذاته، أو يشكِّلُ الصورةَ التي يمكن أن تناسب وضعيَّتَه وحالاتِه الاجتماعيةَ والنفسية. ومن بين الأمكنة نذكر:
- المكان عامة: وهناك أمثلة عدة، نذكر منها قول محمد حماس في نصه (رحيل السيد سين): "المكانُ رهيبٌ. فوضوي .. لوحَةٌ سوريالية .. تركوه كما هو عليه.." أو قول نور الدين كرماط في قصة بعنوان (حكاية الضبع والعقرب والحمار أو حكاية الرمانة المفرقعة): "استوقف سيارةَ الأجرة بعنف، نهَرَ السائقَ وهذا ليس من عادته. نزل في مكان يمنع تَوَقُّفَ السياراتِ فيه."..
- الفضاء لفظا: ويحضر لدى كثير من المبدعينَ، ونقدم نموذجا لبديعة بنمراح في نص بعنوان (شظايا حلم): "ضَمَّنا طائرُ الوجْدِ الجميلُ، بين أحضانِ روحٍ عذبة ، فحَلَّقْنا في فضاءات لا تنتهي، تُضيء دربَنا نجومٌ تتلألأ في حَدَقاتنا أملا، وغداً نرنو إليه مُزْهِر ."
إلى جانب أمكنة أخرى حاضرة كالمسجد والبيت والمدرسة وغيرها..
خلاصة:
يشكل الفضاءُ ملجأً خصْباً يعتمده القاصُّ للتعبير عن انتمائه أو عضويته أو ذكرى أو مكانِ تَقَرُّبٍ وَتَوَدُّدٍ لذلك نصل للقول إنه وسيلةُ أساسية تخدُمُ العملَ الإبداعي كما تساهم في توثيقِ الصلة بين المبدع وذاتِه أو المبدعِ ومحيطِه أو المبدعِ وقضاياهُ الاجتماعيةِ والسياسية والاقتصادية، لذلكَ حضرَ الفضاءُ وبرزَتْ تجلياتُه في آفاقٍ واسعة ومُنوَّعَةٍ أثثَتْ هذه الحلَقَةَ المفقودةَ في ذاكرته؛ ألا وهيَ حركةُ الصراعِ الخفيِّ بين الذاتِ والمحيطِ/ الفضاءِ.
العيون الشرقية 10 شعبان 1436 الموافق ل29 ماي 2015

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م