سمة البداوة في شعر الجهة الشرقية

 سمة البداوة في شعر الجهة الشرقية

(الشعراء الرواد نموذجا)

بقلم :الدكتور عبدالسلام  بوسنينة

ارتأينا في مقاربتنا هذه الحديث عن الشعر في الجهة الشرقية وذلك بغاية  إبراز بعض الطوابع المشتركة التي ميزت هؤلاء الشعراء عن غيرهم من الشعراء المغاربة ، كما رأينا في النتاج الشعري الذي أنتجوه كمّا لا يستهان به    1 , إذ شكل لبنة أساسية ساهمت في بناء صرح الأدب المغربي ، وأثثت مشهده الإبداعي بصفة عامة .

إن ما يستوقفنا ونحن بصدد الحديث عن الشعر بالجهة الشرقية ليس التحديد الجغرافي في حد ذاته ، لأن التقسيم الإداري المعتمد منذ أن وضعت التحديدات الجهوية الرسمية جنبنا عناء البحث عن معايير أخرى قد تطرح إشكالات لا مجال للخوض فيها في ثنايا المدخل , إذ حدد الجهة الشرقية من فكيك جنوبا إلى تاوريرت غربا إلى الناظور شمالا  2، غير أن ما يستوقفنا أساسا هو مسألة الإشكالية المرتبطة بالهوية الجغرافية لكل شاعر ، إذ يصعب أحيانا الإقرار بالانتماء لجهة معينة دون أن نميز بين من هاجر إليها وأقام فيها ،وبين من استقر بها مدة وهاجر إلى غيرها من الجهات ، لقد شغلت مسألة الهوية لجهة معينة المحدثين والقدماء على السواء ،فالعمدة عند ابن حزم الأندلسي بعد أن تيقن من إجماع السالفين والباقين (أن من هاجر إلى مجال الأندلس من سائر البلاد ،فالأندلسيون أحق به ،وهو منهم ومن هاجر من مجال الأندلس إلى غيره ،فلا حظ للأندلسيين فيه ،والمكان الذي اختاره أسعد به ...)  3 .فبالرغم من أهمية هذا الرأي فإننا لا نتبناه كلية بناء على أن تأثير الفضاء في تشكيل التجربة الإبداعية قد يستمر مع صاحبه حتى بعد  هجرته إلى جهة أخرى ،كما أننا لا يمكن أن نؤكد بالمطلق انتماء الشاعر إلى جهته الأصلية في حالة اندماجه في سرب مبدعي الجهة الجديدة ،وما واكب تجربته الإبداعية من تحولات أفقدته طوابعه القديمة وأكسبته طوابع جديدة .ولا نرى فيما سبق أننا حسمنا في قضية الانتماء الجهوي ،سيّما وأن هذه القضية تعد من القضايا المعرفية الشائكة ،فتبني معيار معين يلغي بالضرورة معايير أخرى .

إن مجموع هذه الآراء على وجاهتها،وعلى وجاهة الخلفيات المعرفية والمنهجية التي تسندها لا يمكنها أن تكون فيصلا في ما نريد إقراره بشأن هوية هذا الشعر وهوية أصحابه ،إننا  في هذه المقاربة  نصدر عن مسلمة تستفيد في قسم هام منها مما سبق ، غير أننا بالمقابل نرى أن الشعر والشاعر تتحدد هويتهما الفعلية بالانتماء الأول والأصلي للمنطقة من جهة ،ومن جهة ثانية تتحدد بمدى تأثر الشاعر وشعره بمنطقة معينة وإن لم يكن ينتمي إليها مولدا ونشأة ،بحكم أن الطوابع المشتركة لمتن شعري معين لا تنشأ إلا بفعل عملية التأثير التي تنشأ بين التجارب شعرية وهذا عبر عاملين إثنين:

n             عامل المولد والنشأة ،فالبعد عن  المنطقة في زمن لاحق لا يعني التخلص من تأثيرها على الفرد /الشاعر .

n             عامل الانتقال والإقامة في منطقة أخرى قد يضيف إلى الخصوصية الأصل طوابع مكان الإقامة .

فعن هذا المستوى من الفهم نعتقد أن محمد يحيى قاسمي اعتمد في تصنيفه لمبدعي الجهة الشرقية وأعمالهم في عمله البيبلوغرافي  الأخير   4،وعن هذا الفهم نفسه نحاول رصد الطوابع العامة التي تميز  أو تجمع بين نصوص المتن الشعري بالمنطقة الشرقية، وهي طوابع لا نعتقد أنها تخرج عن اثنين:

       أولا : طابع سوسيو جمالي ،ويتمثل في الجدل القائم بين طبيعة البيئة وطبيعة الإيقاع أو شكل النص العروضي .

       ثانيا: طابع سوسيو تيماتي ، ويتمثل في التزام الشعراء بمجموعة من القيم المستمدة من طبيعة البيئة المحافظة ،فرغم الانزياح الجمالي على مستوى الدلالة بقي هؤلاء الشعراء محافظين على مكونات القداسة فيما يتعلق بأعراف الكتابة وصيغ التشكيل الطبوغرافي للقصيدة.

تعني علاقة البيئة بالطوابع التي أسلفنا ذكرها أن الفضاء الذي نشأ فيه الشاعر يعد مركزيا في تشكيل التجربة الإبداعية لكل مبدع ،خاصة وأن كل فضاء هو في حد ذاته مجال مكاني له خصوصيته الطبيعية وخصوصيته الثقافية بمعناها الأنثروبولوجي ،وهذا القياس في نظرنا هو الذي دفعنا إلى الاعتقاد بأهمية البيئة في بلورة أو صياغة التجربة الشعرية بالنسبة لكل شاعر .

فإذا نظرنا إلى شعراء المنطقة الشرقية وجدنا عمومهم عاشوا في البادية ،ولم يُنْقِصْ التحاقهم بحاضرة المنطقة الشرقية (وجدة وغيرها من المدن) من بداوتهم إلا قليلا .فحواضر المنطقة الشرقية – من حيث بنيتها الدموغرافية – عبارة عن تجمعات قبلية،نضيف إلى ذلك أن أغلب الوافدين من الشعراء على هذه الحواضر استقرا أغلبهم في فضاءات هامشية ،الأمر الذي يمنعنا من تصنيفهم ضمن ما يمكن أن نطلق عليه (ارستقراطية ) في هذه الحواضر .إذن فعامل البيئة المحافظة هذا هو الذي حفزنا للاعتقاد بوجود طوابع مشتركة تميز إلى حد ما شعر الجهة الشرقية عن غيره من جهات أخرى من الوطن.

أولا :الشعر والطابع السوسيو جمالي 

فإذا كانت السمة البدوية ميزة إبداعات أغلب شعراء  الجهة الشرقية بصفة عامة ،فإن الإيقاع أضحى ضابطا مهيمنا في جل قصائدهم .فرغم ما نتج عن الحداثة من تداعيات قد تمس المألوف على المستوى الإبداعي ،فإن شعراء الجهة الشرقية كانوا حريصين وما زالوا – وأحيانا بشكل صارم- على صيانة موروثهم الشعري خاصة في ما يتعلق بشكل النص العروضي .وقد تشذ بعض البدايات عند بعض الشعراء من أمثال محمد منيب البوريمي خصوصا ما نشره من قصائد نثرية  في جريدة (الاتحاد الوطني) بتوقيع أبي ليلى  5 ، وما كتبه الشاعر عبد الرحمن بوعلي  في ديوانه ( أسفار داخل الوطن)  6 ، لكن هذه البدايات سرعان ما وقع الإقلاع عنها في اتجاه قصيدة التفعيلة، أو حتى قصيدة العروض الخليلي ذات الشطرين المتناظرين ، الشيء الذي  يؤكد ما رجح لدينا من اعتبار البيئة البدوية ذات تأثير على هؤلاء الشعراء على مستوى الإيقاع ، أما بالنسبة للشاعر المرحوم الطاهر دحاني    7 ا لذي تمسك بنهجه النثري في كتابة الشعر فقد نجد لذلك مبررا ، والمتجلي في غيابه عن الجهة الشرقية لمدة طويلة ،حيث أقام بمدينة الرباط مدة تزيد قليلا عن العشرية ، ولعل هذا كفيل بالاعتقاد أن البيئة الجديدة مارست تأثيرها عليه. فإذا كان هؤلاء الشعراء يشكلون استثناء في مرحلة معينة ،فإن باقي شعراء الجهة قد خضعوا للمعايير   العروضية التقليدية ، بل إن بعض الشعراء ممن يمكن تصنيفهم ضمن ذوي الثقافة المدينية ( المدينة العتيقة)   الذين كتبوا شعر التفعيلة في شبابهم مثل محمد فريد الرياحي في ديوانه المشترك (العشق الأزرق) 8 ، انتهى إلى كتابة  قصائد تذكرنا بالشعر القديم شكلا ومضمونا ،ويتأكد هذا النهج القديم الجديد من خلال بناء قصيدة التفعيلة على مضامين ذات معجم قديم . كما لم يمنعه شعر التفعيلة من كتابة القصائد الطوال ذات الشطرين المتناظرين على الطريقة الخليلية ،وهذا ينطبق أيضا على عدد قليل من شعراء الجهة الشرقية من أمثال حسن الأمراني ،و محمد لقاح ،وبعض ما كتبه المرحوم محمد بنعمارة في أواخر حياته، فأما عبد الرحمن عبد الوافي والطيب الدرقاوي فقد تميزت جل قصائدهما منذ البدء بالنهج العروضي التقليدي ، وهذه سمة ميزت آخرين ممن لم تجمع قصائدهم إلا مؤخرا من أمثال الشاعر بناصر جباري .

ثانيا : الشعر والطابع السوسيو تيماتي

لقد درج شعراء المشرق على درب الحداثة والتجديد خطوات بدءا بمدرسة أبولو والديوان مرورا بتجربة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب إلى محمود درويش وأدونيس وغيرهم ... فكان لابد أن يصيب سهم الحداثة شعراء المغرب فيأخذون منه بنصيب.

لذلك نجدهم كلهم حاولوا – إلى هذا الحد أو ذاك – أن يبدعوا شعرا يتجرؤون  فيه على شكل القصيدة ومضمونها ،متفاوتين في التمرد على مستوى المضمون على الكثير  مما رأوه طابوها /ممنوعا ،فانقسموا  في نظرنا إلى شيعتين على المستوى الوطني ،فمنهم من بقي محافظا في ما يتعلق بالمقدسات الدينية أو ما ينتسب إليها بهذه الكيفية أو تلك ،ومن هؤلاء شعراء الجهة الشرقية من المغرب الذين لا تجد منهم من تجرأ على هذه القيم رغم اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم العضوية المعلنة أو الكامنة ,الشيء الذي انعكس في أشعارهم. فمحمد لقاح وقمري حسين وعبد الرحمن بوعلي ،وعبد السلام بوحجر إلى حد ما وغيرهم ممن يحسبون على اليسار (بمفهومه الميتافيزيقي وليس السياسي التنظيمي) في الوقت الذي يحسب فيه محمد علي الرباوي ومحمد بنعمارة وحسن الأمراني وعبد الوافي عبد الرحمن ضمن توجه قد يوصف بالإسلامي بشكل عام ,علاوة على المرحوم منيب البوريمي الذي قد يصنف بينهما ,ولكن ما يجمع بين أولائك وهؤلاء هو عدم التجرؤ على القيم المجتمعية والدينية ,ولا يمنع هذا من أن يوظف شعراء الجهة الشرقية الرموز الدينية والتراثية بشكل متفاوت إلا أنهم يتفقون جميعا في عدم الإخلال بقيمة هذه الرموز على مستوى التوظيف بل إن منهم من جعل هذا التوظيف لأجل بلوغ غاية جمالية وتيماتية نبيلة ،كما يلاحظ عند شعراء من أمثال محمد لقاح وحسن الأمراني ومحمد علي الرباوي وعبد الرحمن بوعلي (قصة يوسف عليه السلام نموذجا).

إن ما يقابل هذه السمة الغالبة عند شعراء الجهة الشرقية هو ما نجده عند بعض الشعراء الذين لم يتأثروا بسمة البداوة لطبيعة نشأتهم في  بيئة سوسيو ثقافية حضرية ، وهم وإن لم يشتركوا كلهم في الجرأة على المقدس شذّ عنهم نماذج وإن كانت قليلة فإنهم يتميزون من حيث وتيرة الكتابة في مرحلة معينة ،ومن حيث الصدى غير المقبول لما كتبوه.

نستحضر على سبيل المثال قصائد أحمد بلبدوي الذي صدرت في ديوانه (حدثنا مسلوخ الفقر وردي)  9 ،ولنقف عند العتبة بدءا.حيث يظهر فيها نوع من التحامل على أسلوب من أساليب النقل الخاص بالحديث النبوي والعبث ببعض الأسماء التراثية مثل ( السهر  وردي)الذي يقابله في عتبة ديوان آخر له (سبحان يا بلدي)   10 الذي يتم فيه استعمال عبارة (سبحانك)في غير سياقيها الحقيقي بحيث لم تألفها الأذن عندنا إلا مقرونة باسم الجلالة ( الله)

فإذا انتقلنا إلى مضامين (حدثنا مسلوخ الفقرودي) نقف عند قصيدة (يا صمد) التي يبدو فيها التجرؤ على اسم الجلالة (الصمد) التي ترد على يدي الشاعر نكرة  بخلاف ورودها مُعرّفة في  النص القرآني ،وحتى وإن وردت نكرة وردت معطوفة على معرف ،مما يفقد حمولتها القدسية، وهي فاتحة لسلسة من التجرؤات المدرجة في المتن ، والتي تسلمك عبارتها الأولى إلى عبارة ثانية فثالثة ثم أخرى على طريق المس بالمقدس ,من المشاكلة أسلوبا إلى المشاكلة تيماتيا ،إلى نوع من التلغيز يجمع بين كلمات تكتب متفرقة رسما وتنتهي إلى أذن السامع مجموعة لتعطي معنى آخر (الباقي اللّاوي )، ولنكتفي بمطلع القصيدة التي يقول فيها بلبدوي:

يَا صَمَدُ

فَلَمْ يُجِبْنِي أَحَدٌ فَقُلْتُ عَجَبََا هَذِهِ لَا رَيْبَ

عَسَاكِرُ المَوْشُومِ بِالبَاقٍي اللَّاوي ثُمَّ اسْتَدَرْتُ

إلَيّ وقلت أنَا هُنَا وَزَمَانِي طويل وأتاني مَشّاءَةٌ

وأجراسي معلقةٌ منهم في فتحة الشّرج تتلو

من  فادحةِ الكتاب إِرَبََا إِرَبََا إِرَبََا

حَتَتََا حَتَتََا حَتَتََا.   11

والملاحظ أن مثل هؤلاء الشعراء حينما لا يشفي غليلهم المتن ،ولا يمدهم بما يكفيهم من تدنيس للمقدس ينتقلون إلى الشكل فيما أطلقوا عليه طبوغرافية الكتابة ، فيرسمون القصيدة على أشكال منفرة تصل إلى مستوى من الدناءة ، حيث عمد الشاعر بلبدوي إلى صفّ القصيد ليرسم عضوا تناسليا  12

والخلاصة أن هذا مجرد نموذج عن بعض الشعراء الذين لم تبتل بهم الجهة الشرقية ،وهذا يؤكد لدينا ما جنته البيئة البدوية على شعراء الجهة،فرغم إصدارات عدة لشعراء الجهة والتي مارسوا فيها أنواعا مختلفة من التمرد شكلا ومضمونا لم يحدث لهم منذ شبابهم إلى شيخوختهم ومرورا بكهولة بعضهم أن لامسوا تصريحا أو تلميحا شيئا مرتبطا بالقيم الدينية إلا بما يليق بها من احترام .

____________

الهوامش :

  1 - بلغت حصيلة الإنتاج الشعري بالمنطقة الشرقية ما يناهز 179 مجموعة  شعرية منذ سنة 1971 م إلى غاية منتصف عام 2008 م ،أنظر الإبداع الأدبي المعاصر بالجهة الشرقية من المغرب ،محمد يحيى قاسمي ،مطبعة الجسور ،وجدة ، الطبعة الأولى ،2009م ، ص:29

  2- تم اعتماد نفس الضابط الإقليمي في كتاب الإبداع الأدبي المعاصر بالجهة الشرقية من المغرب ،ص 11

  3- انظر تقديم الأستاذ بدر المقري لكتاب الإبداع الأدبي بالجهة الشرقية من المغرب المرجع نفسه ،ص:4

4 -  لم يستثن محمد يحيى قاسمي في انجازه البيبلوغرافي مبدعين ولدوا وأقاموا في الجهة الشرقية رغم انتقالهم الى جهات أخرى انظر مؤلفه الإبداع الأدبي المعاصر في الجهة الشرقية من المغرب مرجع سابق.

                            

5 -تصريح  للشاعر محمد علي الرباوي أفادنا به أثناء انجاز أطروحة "بنية القصيدة في شعر "محمد علي الرباوي " الذات ومعادلها

6 -أسفار داخل الوطن – عبد الرحمن بوعلي ،مطبعة الأندلس – البيضاء ،1977

 7-من ابرز إنتاجاته ما تضمنه ديوان البريد يصل غدا وهو ديوان مشترك تضمن قصائد للشاعر حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي والطاهر دحاني ، مطبعة أبو زيد البيضاء ،1975 م

8 – العشق الأزرق (مشترك):محمد بنعمارة/فريد الرياحي،مطبعة النهضة ،فاس 1976م 

-9حدثنا مسلوخ الفقروردي ،أحمد بلبدوي،مؤسسة تبشرة للطباعة والنشر(بنميد)،الدار البيضاء،الطبعة الأولى 1983 .

   10  -سبحانك يا بلدي ،أحمد بلبدوي ،مطبعة الأندلس،الدار البيضاء الطبعة الأولى سنة 1979م.

11 -حدثنا مسلوخ الفقروردي ،أحمد بلبدوي، المرجع السابق ص 38.

 12 -انظر ديوان حدثنا مسلوخ الفقروردي ،أحمد بلدبوي ،مرجع سابق ص 13 – 14 .

تابع القراءة »