غربة الذات والفضاء في ديوان:
(سادن الرمل) لخالد بودريف
د. محمد دخيسي
التقديم:
يستبطن الإنسان كثيرا من المفاجع والآلام، ويثبتها عبر
كلمات الورق لينفس عن حالته، ويبث في نفسه روح الألم. في هذا المنحى تأتي المجموعة
الشعرية (سادِن الرمل) لخالد بودريف، ارتآها حلا لواقع وحياة مهزومين، انتبه فيها
إلى تيمة الصحراء والرمال، وما تثيره في خاطره من مآسي الغربة والوحدة..
و(سادن الرمل)[1]
أيضا شعر يحبل بكثير من القضايا الإيقاعية التي تحفز البحث والتنقيب، وتؤكد صلة
الشاعر بالعروض الخليلي شكلا ومضمونا.
كما أن خالد بودريف في هذا العمل لفت الانتباه إلى النفس
الطويل في كتابة الشعر، بالرغم من سلطة الأنا وتفكيك الواقع انطلاقا من (أناه).
من هنا تأتي قراءتنا التقديمية للمجوعة سابرةً أغوار
الذات المهزومة، عبر ثلاث محطات:
- الغربة والوحدة وتشكلاتها في المجموعة الشعرية (سادن
الرمل).
- الأنا الحاضرة والغائبة لدى خالد بودريف.
- العروض الخليلي وسلطته في الديوان.
1- الغربة والوحدة وتشكلاتها في المجموعة الشعرية (سادن الرمل):
قبل البدء في تحليل موضوع الغربة والوحدة في المجموعة
الشعرية (سادن الرمل) لخالد بودريف، نعرج قليلا على تحليل العنوان، وقد استغل فيه
الشاعر الإضافة للتعريف بنوع السادن، والسَّادِنُ في اللغة هو خادم الكعبة كما
أشار إلى ذلك لسان العرب[2]،
وخادم الرمل نسبة للمهمة التي يقوم بها الشاعر في حياته، وربما يكون الرمل مقترنا
بالتشتت، كما يمكن ربطه بالصفاء.. لكن حين نطالع الديوان نقرأ في قصيدة (سادن
الرمل) قول الشاعر:
تًؤَكِّدُ الأرْضُ لي أني هُنا
وَحْدي
وأَنَّ مَنْ هُمْ معي لَمْ يَعْرِفوا
قَصْدي[3]
إلى أن يصل إلى قوله:
هنا أنا سادِنُ الرَّمْلِ الذي لَعِبَتْ
بِهِ مَفاتيحُهُ في الريحِ
بالبُعْدِ
فالشاعر يتحين الفرصة للتعبير عن بعده، وعن غربته وحيدا
وسط الصحراء، فهو خادمها الذي أتعبته رمالها، وهو الجاني على نفسه جراء الخدمة
المتواصلة والمتعبة. ونجده مرات أخرى يعبر عن هذا التشظي، يقول في قصيدته (كل
شيء.. ليس لي):
قالَ ذاتَ مساءٍ لِيَ الحِبْرُ
مَنْ أَنْتَ بَينَ الرِّمالِ
لِكَيْ تُمْسِكَ الأرْضَ
مِنْ ذَيْلِها
فَوْقَ نَهْرٍ
مِنَ الجُنْدُلِ[4]
وبتعرف دلالة العنوان، يمكن أن نقف جانبا عند بعض خصوصية
الإبداع في الديوان من خلال تيمة الغربة والوحدة، فالشاعر خالد بودريف يكثف من
دلالاتها، ويؤشر عليها بتقليب المعاني، وتشتيت المراد بين الأبيات الشعرية. ومن بين الدالات التي اعتمدها
الشاعر نذكر:
1-1- الصحراء ومرادفاتها: فالصحراء بالنسبة للشاعر معادل موضوعي لليباب والقفر
كما سجلها الشاعر الإنجليزي إليوت، لذا يكرر بودريف اللفظة ويذكر بعض مرادفاتها
كالبيد في قوله في قصيدته (قافلة لامرأة لم تولد بعد):
الأرضُ غاضِبَةٌ على الإنسانِ
ما عادتْ تُقَبِّلُهُ الغُيومُ ولا الطيُّورُ
كأَنَّهُ ألقَى مِنَ الأحْجارِ مَا يَكْفي
على مخْزونِهِ المُخْضَرِّ مِنْ قَمْحِ السُّرورِ
فَجَفَّتِ الأنْهارُ وابْتَلَّتْ عُيونُ البيدِ دهراً
بالرِّمالِ
الحارِقاتْ[5]
كما استطاع بودريف أن يلفت النظر إلى استغلاله لفظ
اليباب في قصيدته (أسطورة المدينةِ المغلقةِ)، وهو يرمز في ذلك إلى مدينة الفحم
جرادة، موطنه ونبعه الذي يشتهيه:
هذي المدينةُ سِحرُها في اليُتْمِ
تَكْتُبُ طَلْسَمَ الأوجاعِ
في بِدَعٍ مِنَ الأحوالْ..
تُحوِّلُ كُلَّ مَوْلودٍ تُشاهِدُهُ
بِعَيْنَيْها إلى حَجَرٍ يَبابْ[6]
إنها مدينة (فدان الجمل)[7]
بما تحمله من رمز الفناء، والوحدة والغربة بعد إغلاق مناجم الفحل، واغتراب جل أفرادها
نحو مدن أخرى، أو العيش داخلها في غربة ذاتية، لما تحمله من فواجع وآلام وحزن
ودموع وبكاء:
مِنْ أجلِ انْتِزاعِ الفَحْمِ مِنْ بَطْنِ التُّرابْ
أوْ تُحْرَمَ امْرَأَةٌ مِنَ الحُبِّ الجَديدِ
وَدَمْعُها يَبْكي على قَبْرِ
الفتى المَوْؤودِ بالأَحْجارْ[8]
إذ يربط الشاعر هنا بين الماضي والحاضر، ماض مليء
بالمآسي المتعلقة بغربة آبار المناجم، وحاضر يعيشه سكان جرادة وسط آلام العزلة
والوحدة والتشرد:
لا شيْءَ يَنْتَظِرُ الغَريبَ هُنا
فَما هذي المَدينَةُ في ملابِسِها الغَريبَةِ
بَيْنَ أحْبابي
سوى أُسْطورَةٍ
ملأَتْ بِأَرْصِفَةِ التَّشَرُّدِ
مِنْ مَقاماتِ التَّسَكُّعِ[9]
إنها إذن رموز تنعت المكان، وتصف الفضاء بأسوإ ما يمكن
أن يعيشه إنسان في أرض مهولة، أرضٍ أنبتتْ سنابل الوحدة، وصارت رمالا وصحراء
مقفرة. والغريب في غربة هذا الفضاء أن الشاعر لم يستعمل لفظة (الصحراء) إلا مرتين في
قصيدته (سادن الرمل): واحدة في قوله:
نَقْشٌ
على حَجَرِ اللَّيْلِ الطَّويلِ هُنا
يَكفي
لِتُرْسِلَني الصَّحْراءِ لِلَّحْدِ[10]
والأخرى في:
لِمَنْ سَأَتْرُكُ صَحْراءً تُخَرِّبُها
مَعاوِلُ المُدُنِ الخَرْساءِ
كالنَّهْدِ[11]
أو ما جاء في الإهداء الذي خص به كل أبناء مدينته، وإلى
كل من عاش غربة المكان في صحراء من أنواع مختلفة: "إلى من خبروا المنافي في
وجوه الصحراء المتعددة"[12]،
ثم اعتبارها جامعة لنصوص الجزء الأول بعنوان (روح الصحراء).[13]
1-2- الغربة الذاتية:
عانى الشاعر العربي المعاصر من غربة الذات جراء الأزمات
الواقعية، والعوائق النفسية وغربة الذات المتشتتة وسط فراغ الفضاء، وفراغ النفس
المنبعثة من رماد التشظي في الحياة المليئة بالأوجاع. خالد بودريف يعاني سلطة
الذات بكل أشكالها، فهو الوحيد والغريب، وهو المتوجع والمتألم، وهو الحزين المتعطش
لكل أساليب الحياة السعيدة، وهو المنفي في دروب التسكع والتشرد، إنه الموت البطيء،
أو بطء المصير المحتوم الذي لم يخلصه من حريق الذات.
تعددت أشكال التعبير عن الوحدة في ديوان (سادن الرمل)،
فمن الوحدة:
فَوَحْدي
على طَلَلِ الكَلِماتِ أسيرُ
وَخَلْفي فَراشاتُ عُمْري تَطيرُ
إلى الأُفُقِ اللانِهائيِّ فَوْقَ قُشورِ الفَناءْ[14]
إلى النفي والمنافي:
فلِي قامَةٌ تُمْسِكُ الشَّمْسَ مِنْ ثَوْبِها
ولي وَطَنٌ في المَنافي[15]
ليعيش الشاعر حالة الحزن والأسى والألم والأوجاع، تلهو
به الريح يمنة ويسرة ولا يجد من يواسيه في محنته ومعاناته في علاقة دائمة بالمدينة
ومأساتها الأبدية، جاء في قصيدته (أسطورة المدينة المغلقة):
هَذي المدينةُ سِحْرُها في اليُتْمِ
تَكْتُبُ طَلْسَمَ الأَوْجاعِ[16]
لينتهي به المقام إلى قبر المماة:
حين أَشْهَدُ موتيَ قَبْلَ غِنائي
على قَبْرِكَ الوَرَقِيِّ
وأبكي كَما لَمْ يُرَ الدَّمْعُ
في دَمْعِ
عَيْنِ البُكاءْ[17]
فنلاحظ جمع الشاعر جملة من الألفاظ الدالة على الغربة
والاغتراب والحزن: الموت- القبر- الدمع- يعن البكاء، وكلها دالات تشي بحزن عميق
يئن له الشاعر ويتحمس لرؤية منفاه الأخير في ظل حياة جحيم، وجحيم حياة.
كما أن الشاعر لا يتورع عن مخاطبة الذات بشتى أشكال
التعريف بمآسيها، والتنكيل بها إلى مراتع الحزن والأسى.
لذلك نجده ينتقل من ضمير الغائب إلى ضمير المتكل، موحيا
للمتلقي أن الشخص الأول غير الثاني، لكن الذات الحزينة هي التي تتكلم وتعبر عن
مكنوناتها وإن لم يؤشر الشاعر إلى كونهما واحدا لا يتجزأ.
1-3- الذات الحزينة: ومرادف الآخر:
يقول خالد بودريف في بداية قصيدته (أسطورة المدينة
المغلقة):
لا شيءَ يَنْتَظِرُ الغَريبَ هُنا
فما هذي المدينَةُ في ملابِسِها الغَريبةِ
بين أحبابي[18]
كما يقول:
في كلِّ طِفْلٍ في المدينَةِ صَخْرَةٌ
تَنْمو مَعَ الفَحْمِ القَديمِ [19]
لكن الغالب في كل المجموعة الشعرية (سادن الجمل) هو
اعتماد الشاعر بودريف ضمير المتكلم في الماضي والمضارع، وربطه بالاسم والحرف دليلا
على تمسكه "بأنا" الدالة على قوة فعله داخل مدينته، وعن مأساته التي
يعانيها كما يعاني منها جل الأطفال الذين عاشوا في المدينة ذاتها.
لذا نجده يكثف من هذا الضمير حتى أضحى موضوعا مستقلا
بذاته، يقول في قصيدة (باب على الريح):
قِيامَتي
في مدى الأحياءِ
واقِعَةٌ،
ظِلُّ المَدى يتَجَلّى مِنْ لَظى حُرَقي[20]
ومثال ذلك كثير في الديوان، مما يؤكد سلطة الأنا، وتدفق
الذات إلى السطح معبرة عن مآسيها وأحزانها ومواقفها المتعبة من الواقع والحياة.
إذن، بعد هذه الإطلالة على ذات الشاعر وإلى تعبيره عن
ذات مفعمة بالمشاعر المأساوية تجاه الفضاء المكاني، وتعبيره أيضا عن رمزية الصحراء
بكل مرادفتها واعتبار نفسه خادما لهذا الفضاء بما يحمله من معاني التشرد والوحدة
والغربة، بعد هذه التوطئة نصل إلى خصوصية الشاعر في ديوانه (سادن الرمل).
2- العروض الخليلي وسلطته في الديوان:
اعتمد الشاعر في ديوانه (سادن الرمل) بحور الشعر العربي
الخليلية، بكل قواعدها وقوانينها، إلا أنه يختلف عنها في عدد التفيعلات، مما جعل
قصائده تقليدية وتفعيلية بامتياز، نظرا لما تحمل من سمات التعدد وسمات الانسجام
الصوتي والإيقاعي.
يعقد الشاعر صلة ببحور أربعة في ديوانه هي:
المتدارك: ثلاث قصائد.
الكامل: ثلاث قصائد.
البسيط: قصيدتان.
المتقارب: قصيدتان.
وما يلاحظ على القصائد العشر في (سادن الرمل) أن خالد
بودريف يتعامل معها بطريقة سلسة تنم عن وعي كامل بقواعدها.
ويمكن أن نشير إلى ثلاثة أمثلة من بحور ثلاثة:
أولا- قصيدة (قافلة لامرأة لم تولد بعد):[21]
القصيدة من بحر الكامل، تتكون من ستة أبيات شعرية:
ب1: يشكله المقطع الأول بثلاثَ عشْرةَ تفعيلة، تبدأ من
أول النص إلى ..الناعساتْ (مُتْفاعِلانْ).
ب 2: يشكله المقطع الثاني بعشْرِ تفعيلات، تبدأ من
أحتاج إلى ..العاشقاتْ (مُتْفاعِلانْ).
ب 3: يشكله المقطع الثالث بتسعَ عشْرةَ تفعيلة، تبدأ من
الأرضُ غاضبةٌ إلى ..الحارقاتْ (مُتْفاعِلانْ).
ب 4: وهو جزء من المقطع الرابع من ما عادتِ الأرضُ ..
إلى الحريرْ بخمسِ تفعيلات، واعتبرناه بيتا مستقلا لأن الشاعر أنهاه بالقافية
نفسها (متْفاعلانْ) إلى جانب تسكين آخر الكلمة دون اعتماد الروي ذاته.
ب 5: وهو الجزء الثاني من المقطع الرابع، يبدأ من كلُّ
المحبين .. إلى الظامئات (متْفاعلانْ)، ويتكون من أربعَ عشرةَ تفعيلة.
ب 6: يشكله المقطع الخامس بأربعَ عشْرةَ تفعيلة، تبدأ من
أحتاجُ لامرأةٍ إلى ..الساحراتْ (مُتْفاعِلانْ).
ثانيا- قصيدة (سادن الرمل):[22]
يمكن اعتبار هذه القصيدة شكلا عموديا صرفا، لأنها نُظمت
على بحر البسيط (أربعة وعشرون بيتا)، كل بيت يستعمل فيه الشاعر تفعيلات البحر
الثمانية مقسمة إلى شطرين، لكنه ارتأى كتابتها على الشكل التفعيلي موهما القارئ
ببعدها عن الشكل التقليدي. وما يميز أيضا هذا النص وبعض النصوص الأخرى استغلال
الإشباع، خاصة مع بعض الضمائر المتصلة، كقوله:
هنا أنا سادِنُ الرَّمْلِ الذي لَعِبَتْ (متَفْعِلُنْ فاعِلُنْ مسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ)
بِهِ مَفاتيحُهُ في الريحِ (متَفْعِلُنْ فاعِلُنْ مستفْعِ..
بالبعدِ[23] ..لُنْ فَعْلُنْ)
والإشباع يظهر في الجار والمجرور (به.. بِهِي) وفي الاسم
(مفاتيحه.. مفاتيحُهُو)
ثالثا- قصيدة (كل شيء .. ليس لي):[24]
اعتمد الشاعر في هذه القصيدة بحر المتدارك لأنه يستغل
تفعيلات (فاعِلُنْ) و (فَعِلُنْ) وهي مكونة من ثلاثةَ عشر بيتا:
البيت
|
عدد التفعيلات
|
بدايته
|
نهايته
|
1
|
14
|
حين أصنع...
|
.. بالغناءْ
|
2
|
13
|
حين أشهدُ...
|
... عين البكاءْ
|
3
|
14
|
حين أمشي...
|
... وماءْ
|
4
|
25
|
أعرفُ الآنَ..
|
... الفناءْ
|
5
|
5
|
لا تَعُدْ...
|
... الأولِ (تغير حرف الروي)
|
6
|
7
|
حيث لمْ...
|
... المُقْبِلِ
|
7
|
8
|
أنتَ طِفْلٌ...
|
...منزلِ
|
8
|
8
|
وترى...
|
... مِنْ عَلِ
|
9
|
13
|
قالَ ذاتَ..
|
...من الجندلِ
|
10
|
8
|
قال مَنْ...
|
... بلا مَنْهَلِ
|
11
|
22
|
لستَ تَكْتُبُ...
|
... في وطن الموتِ لي.
|
12
|
4
|
كلُّ شيء تراهُ...
|
.. هو لي
|
13
|
13
|
كلُّ شيءٍ على الأرضِ...
|
... آخر النص
|
تركيب:
اخترتُ التعامل مع المجموعة الشعرية (سادن الرمل) من
ناحيتين:
ناحية موضوعية تيمية، تكشف أهم البنى المضمونية في
القصائد، وقد أشرت إلى استغلال الشاعر خالد بودريف الجو المحتقن لمدينة جرادة من
جهة، وإلى جو الفضاء (الصحراء) الذي اختاره منفى لذاته من جهة ثانية، ثم المنحى
الثالث المتمثل في الغربة الذاتية وما تمثله جل التعابير والدلالات والدالات
المؤشرة على خصوصية الذات المحترقة والمأساوية.
أما الناحية الثانية، فقد آثرت أن تكون إيقاعية، لأن
المجموعة الشعرية تستغل الفضاء الورقي لتشكل قصائد تفعيلية شكلا، عمودية جوهرا،
معتمدا القواعد الخليلية مما يثبت معرفة أساسية بها، وتطبيقها بصورة تنبئ أن
الشاعر متشبث بتراثه العربي.
ما يمكن أن يضاف هنا، هو اللغة التي تشير في غالبيتها
إلى المعجم العربي القديم، باعتماد المجازات والتحولات الدلالية والتركيبية مما
يحفز القراءة المتأنية من جديد، وهو ما يمكن الإحاطة به في قراءة أخرى.
العيون 17 جمادى الأولى
الموافق ل 29 مارس 2013.