بقلم الأديبة والكاتبة المغربية مالكة عسال
قراءة خاصة في كتاب فضفضة للكاتب المبدع إدريس عبد الجبار
لقد سبق أن قرأت بعضا من نصوص المبدع عبد الجبار إدريس خارج مدار هذه المجموعة ،وأعجبت بمتنها اللغوي وسردها الحكائي السلس ،وسلاسة تلاحق الأحداث تعاقبها في انسجام تام ..فقادتني إلى مجموعته الرقمية المعنونة ب"فضفضة "لأجوب مغاورها وكهوفها قدر المستطاع ..وقبل أن أحفر بمعولي البسيط في تضاريسها، وأباشر مغامرتي في الانحدار والصعود مع مهاويها وقممها ،استفزني العنوان المؤلف من كلمة واحدة كمصدر من فعل "فضفضَ يُفضفض فضفضة " ،وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه ، لتصبح الجملة مكتملة لفظا ومعنى "هذه فضفضة " وتعني التنفيس عن النفس وإفراغها من حمولة همها اليومي ،وما تعج به من آلام ..لتطهيرها وضمد جراحها ورأب أثلامها ،وهذا جلي في العناوين الجزئية للنصوص:
ــ البوح الأول
ـ والبوح الثاني
.....
وهذه العناوين الفرعية لم توضع عبثا وبشكل عفوي تلقائي ،بل تشدها خيوط رفيعة إلى العنوان الرئيسي ... "فضفضة"
فالمبدع يركب صهوة البوح عبر التحليق إلى العالم الآخر ،غير عالمه الواقعي الذي تبتر حواشيه الجرائم ، وتتخلل سراديبه عللٌ متورمة ،للتعبير للكشف للتعرية للفضح فالتجأ إلى الإبداع ،صرحِه المختار الذي أثثه بالحرف والكلمة ،باحثا به وفيه عن موطن للجمال تغتسل فيه النفس ،فيُفرغ في يم البوح السردي ما يثقل العمق بلعبة فنية سردية رائعة ،" أجمل اللحظات التي أدون فيها مشاعري بعبق الأحزان كله "فالأدب لديه هو مفتاح سره ،وعلبته السوداء الفريدة التي يخفي فيها مخزون الذات ،والذي قد يسكبه فيها كيف شاء سرا أو علانية ،دون حسيب أو رقيب ، فالأدب هو العصا السحر ية التي ينفض بها الغبار العالقة بالنفس كي تتطهر .فتخرج من مسبح النقاء صافية .. فالذات المبدعة تعيش أوضاعا مأزومة ،تهيمن عليها رغبة الانعتاق مما يشدها إلى واقع معلول ،فتنطلق سعيدة في حرية مطلقة ، لتؤثث لنفسها منبرا فريدا تتعبد فيه بعيدة عن الأنفس الآثمة والأيادي الفاجرة ،التي تلوث الأوضاع بخبثها الصاعد أجتز الخيانة من بين قطوفٍ علا شذاها الملوث فوق مراقد مزيفة,نرقد فيها أحياءاً دون روح دون جسد دون إحساس ونحن نلوك كلماتنا الأخيرة...
الكاتب يريد العبور بذاته ،والسمو بها في أقطار السماوات السبع ، إنني مكمم بإزار قرمزي محموم يهزني إلى السماء أمتاراً للابتعاد عن أوضاع موبوءة ،يريدها الكاتب في حلة من البهجة والفرح ،والحال أنها ليست كذلك ،وليس بيد المبدع إمكانيات للتغيير اجتاحته حالة من التوتر العنيف والانفعال الحاد ،فأصبح يعيش صراعا أبديا خانقا ،تتمرد معه نفسه ،ويستيقظ به وعيه ويصحو له ضميره .. كان الصراع ليلاً أكبر مما كنت أتوقعه,في عتمة الليل..
وما الصراع الليلي هنا إلا الصراع الواقعي في ظل الهيمنات ،التي تخطف الأوطان من بين الأقدام ،وتنثر أعاصير الاجتياح والتشرد لبني الإنسان ،والقهر المستفحل الذي غرز مخالبه في شرائح كبرى من بني البشر ،واغتيال القيم الجميلة ،وتفشي الرذائل بكل أنواع الظلم والجبروت والطغيان ،والفتن المتقدة التي تودي بالأرواح إلى جحيم الموت والإبادة ،فتغتال الأبرياء ، وتسحق الطبقات الدنيا ،حيث أصبح معه العالم مبهما تكتنفه أسرار غير مفهومة ،والعقل شاردا والذهن تائها في تخوم أسئلة جامحة تغور أجوبتها في كنه المستحيل .." أنا أكره التبعية المختلطة بروح القوانين الفاسدة هاته,"وللخروج من هذه العتمة المطنبة والمعمعة الحامية ت،حاول الذات المبدعة التنصل منها بالهروب بالفرار، بالابتعاد إلى ملاذها الفاتن الذي اختارته عن طواعية عبرعدة بوابات ضيقة :
ــ بوابة الأمل لتحقيق المأمول المرغوب فيه ..
ــ بوابة الحلم سواء الحلم أثناء النوم ،أو الحلم بمتمنيات النفس وماتصبو وتطمح إليه ..
ــ بوابة الخيال المجنح الهائم عبر دوائر الفضاء الرحب، كنت أتخيل نفسي مرات تلو الأخرى أخيلياً من بني جلدة الرومان وذلك للكشف عما في النفس ، وبالتالي يدفع القارئ إلى فهم العالم المحيط به ،ومن وجه ثالثة للدوس على الأشياء الذميمة المكتنزة بالبؤس والأسى، التي خلخلت الذات المبدعة ،وغرزت في عمقها نصالا حادة حارقة ،أيقظتها من وطأة القهر والإزدراء ،وناولتها مشعل البحث عن سبل التغيير لتحقيق غد أرقى وأفضل ... " إني أحب أن أتمرد..."وهذه الأشياء مجتمعة تظافرت وتعانقت بمتنافراتها وأضدادها ، فاستوعبتها الذات المبدعة ،لتعيد تركيبها في عجنة جديدة بآليات جديدة وصياغة جديدة ،لملمتها من تجارب الآخرين ومن واقعها المعيش ،والمحيط ،ومن التفكير العميق ،والتأمل بعين فاحصة ناقدة في كل مايجري ويقع ...فكان المجال المهيأ على سعته هو البوح ،فخلقت عالمها المنفرد بطقوس أخرى غير الموجودة في الواقع ،بلغة ثرية ضربت جموح الشعري ،وخلخلت الجانب النثري ..تنقل الأشياء من خلال نعوتها وصفاتها لنقل الأفكار ، محولة حدود ماهو موجود في عالم الناس،بلغة رمزية تخييلية إلى عالم الشياطين والأبالسة .. تتراقص تارة بالصور المجازية الإيحائية ،وتحاور أخرى بالعادي المألوف ، بعناصر إيقاعية جعلها تبلغ ذروتها في الاتساق والانسجام ،بمعجم مكتنز بألفاظ جميلة وأسلوب خاص يمتاز بالسلاسة ،والدقة في لعبته السردية الفريدة بسيطرة الصور على المعنى ،كظاهرة بنائية نفسية في نصوصه ،تحتشد بأشياء جاهزة تعيش في واقع المبدع،فتتجمع وتتضام في خلق فني ليُخرج للمكتبة العربية مجموعة قصصية ضخمة تكتنز بآفاق فسيحة متعددة في الحياة .. عنوانها" فضفضة "
بقلم الأديبة والكاتبة المغربية
الأستاذة الأكاديمية مالكة عسال
بتاريخ 01/10/2014
قراءة خاصة في كتاب فضفضة للكاتب المبدع إدريس عبد الجبار
لقد سبق أن قرأت بعضا من نصوص المبدع عبد الجبار إدريس خارج مدار هذه المجموعة ،وأعجبت بمتنها اللغوي وسردها الحكائي السلس ،وسلاسة تلاحق الأحداث تعاقبها في انسجام تام ..فقادتني إلى مجموعته الرقمية المعنونة ب"فضفضة "لأجوب مغاورها وكهوفها قدر المستطاع ..وقبل أن أحفر بمعولي البسيط في تضاريسها، وأباشر مغامرتي في الانحدار والصعود مع مهاويها وقممها ،استفزني العنوان المؤلف من كلمة واحدة كمصدر من فعل "فضفضَ يُفضفض فضفضة " ،وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه ، لتصبح الجملة مكتملة لفظا ومعنى "هذه فضفضة " وتعني التنفيس عن النفس وإفراغها من حمولة همها اليومي ،وما تعج به من آلام ..لتطهيرها وضمد جراحها ورأب أثلامها ،وهذا جلي في العناوين الجزئية للنصوص:
ــ البوح الأول
ـ والبوح الثاني
.....
وهذه العناوين الفرعية لم توضع عبثا وبشكل عفوي تلقائي ،بل تشدها خيوط رفيعة إلى العنوان الرئيسي ... "فضفضة"
فالمبدع يركب صهوة البوح عبر التحليق إلى العالم الآخر ،غير عالمه الواقعي الذي تبتر حواشيه الجرائم ، وتتخلل سراديبه عللٌ متورمة ،للتعبير للكشف للتعرية للفضح فالتجأ إلى الإبداع ،صرحِه المختار الذي أثثه بالحرف والكلمة ،باحثا به وفيه عن موطن للجمال تغتسل فيه النفس ،فيُفرغ في يم البوح السردي ما يثقل العمق بلعبة فنية سردية رائعة ،" أجمل اللحظات التي أدون فيها مشاعري بعبق الأحزان كله "فالأدب لديه هو مفتاح سره ،وعلبته السوداء الفريدة التي يخفي فيها مخزون الذات ،والذي قد يسكبه فيها كيف شاء سرا أو علانية ،دون حسيب أو رقيب ، فالأدب هو العصا السحر ية التي ينفض بها الغبار العالقة بالنفس كي تتطهر .فتخرج من مسبح النقاء صافية .. فالذات المبدعة تعيش أوضاعا مأزومة ،تهيمن عليها رغبة الانعتاق مما يشدها إلى واقع معلول ،فتنطلق سعيدة في حرية مطلقة ، لتؤثث لنفسها منبرا فريدا تتعبد فيه بعيدة عن الأنفس الآثمة والأيادي الفاجرة ،التي تلوث الأوضاع بخبثها الصاعد أجتز الخيانة من بين قطوفٍ علا شذاها الملوث فوق مراقد مزيفة,نرقد فيها أحياءاً دون روح دون جسد دون إحساس ونحن نلوك كلماتنا الأخيرة...
الكاتب يريد العبور بذاته ،والسمو بها في أقطار السماوات السبع ، إنني مكمم بإزار قرمزي محموم يهزني إلى السماء أمتاراً للابتعاد عن أوضاع موبوءة ،يريدها الكاتب في حلة من البهجة والفرح ،والحال أنها ليست كذلك ،وليس بيد المبدع إمكانيات للتغيير اجتاحته حالة من التوتر العنيف والانفعال الحاد ،فأصبح يعيش صراعا أبديا خانقا ،تتمرد معه نفسه ،ويستيقظ به وعيه ويصحو له ضميره .. كان الصراع ليلاً أكبر مما كنت أتوقعه,في عتمة الليل..
وما الصراع الليلي هنا إلا الصراع الواقعي في ظل الهيمنات ،التي تخطف الأوطان من بين الأقدام ،وتنثر أعاصير الاجتياح والتشرد لبني الإنسان ،والقهر المستفحل الذي غرز مخالبه في شرائح كبرى من بني البشر ،واغتيال القيم الجميلة ،وتفشي الرذائل بكل أنواع الظلم والجبروت والطغيان ،والفتن المتقدة التي تودي بالأرواح إلى جحيم الموت والإبادة ،فتغتال الأبرياء ، وتسحق الطبقات الدنيا ،حيث أصبح معه العالم مبهما تكتنفه أسرار غير مفهومة ،والعقل شاردا والذهن تائها في تخوم أسئلة جامحة تغور أجوبتها في كنه المستحيل .." أنا أكره التبعية المختلطة بروح القوانين الفاسدة هاته,"وللخروج من هذه العتمة المطنبة والمعمعة الحامية ت،حاول الذات المبدعة التنصل منها بالهروب بالفرار، بالابتعاد إلى ملاذها الفاتن الذي اختارته عن طواعية عبرعدة بوابات ضيقة :
ــ بوابة الأمل لتحقيق المأمول المرغوب فيه ..
ــ بوابة الحلم سواء الحلم أثناء النوم ،أو الحلم بمتمنيات النفس وماتصبو وتطمح إليه ..
ــ بوابة الخيال المجنح الهائم عبر دوائر الفضاء الرحب، كنت أتخيل نفسي مرات تلو الأخرى أخيلياً من بني جلدة الرومان وذلك للكشف عما في النفس ، وبالتالي يدفع القارئ إلى فهم العالم المحيط به ،ومن وجه ثالثة للدوس على الأشياء الذميمة المكتنزة بالبؤس والأسى، التي خلخلت الذات المبدعة ،وغرزت في عمقها نصالا حادة حارقة ،أيقظتها من وطأة القهر والإزدراء ،وناولتها مشعل البحث عن سبل التغيير لتحقيق غد أرقى وأفضل ... " إني أحب أن أتمرد..."وهذه الأشياء مجتمعة تظافرت وتعانقت بمتنافراتها وأضدادها ، فاستوعبتها الذات المبدعة ،لتعيد تركيبها في عجنة جديدة بآليات جديدة وصياغة جديدة ،لملمتها من تجارب الآخرين ومن واقعها المعيش ،والمحيط ،ومن التفكير العميق ،والتأمل بعين فاحصة ناقدة في كل مايجري ويقع ...فكان المجال المهيأ على سعته هو البوح ،فخلقت عالمها المنفرد بطقوس أخرى غير الموجودة في الواقع ،بلغة ثرية ضربت جموح الشعري ،وخلخلت الجانب النثري ..تنقل الأشياء من خلال نعوتها وصفاتها لنقل الأفكار ، محولة حدود ماهو موجود في عالم الناس،بلغة رمزية تخييلية إلى عالم الشياطين والأبالسة .. تتراقص تارة بالصور المجازية الإيحائية ،وتحاور أخرى بالعادي المألوف ، بعناصر إيقاعية جعلها تبلغ ذروتها في الاتساق والانسجام ،بمعجم مكتنز بألفاظ جميلة وأسلوب خاص يمتاز بالسلاسة ،والدقة في لعبته السردية الفريدة بسيطرة الصور على المعنى ،كظاهرة بنائية نفسية في نصوصه ،تحتشد بأشياء جاهزة تعيش في واقع المبدع،فتتجمع وتتضام في خلق فني ليُخرج للمكتبة العربية مجموعة قصصية ضخمة تكتنز بآفاق فسيحة متعددة في الحياة .. عنوانها" فضفضة "
بقلم الأديبة والكاتبة المغربية
الأستاذة الأكاديمية مالكة عسال
بتاريخ 01/10/2014