الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

الهلوسة: سخرية الكتابة و هوس الإبداع/مداخلة: ذ. محمد العرجوني


الهلوسة: سخرية الكتابة و هوس الإبداع

مداخلة: ذ. محمد العرجوني
المقهى الأدبي وجدة: 30 يوليوز 2013
لقاء: الهلوسة سخرية الأدب وأدب السخرية
***
1-   ماذا عن كلمة : الهلوسة؟
لسان العرب: الهلْس والهُلاس: شدة السُّلال (الدّاء) من الهُزال ...يعطي المهْلوس: الذي يَأْكل ولا يُرى أَثرُ ذلك في جسمه. ومهْلوس العقل أي مسلوبه. ومهْتلس العقل أي ذاهبه.
في معجم المعاني نجد: الهلوسة: أَخْيِلَةٌ يَظُنُّها الإِنْسانُ وَقَائِعَ حَقِيقِيَّة، وهي مرتبطة بالتحليل النفسي، منها:
     هلوسة الألم
     هلوسة الإحساس بدواخل الجسد
     هلوسة التملك
     هلوسة العملقة
     هلوسة ترائي الذات
     هلوسة تصغيرية - عجائبية
     هلوسة تصورية
     هلوسة تفريقية
     هلوسة جماعية
     هلوسة حجم القامة
     هلوسة حسية متعددة


2-   الهلوسة في علاقتها بالأدب العربي:
لم أجد ما يشفي غليلي في الأدب العربي... لكن ما يمكن إجماله، أن الأدب العربي، وخاصة الشعر منه، غالبا ما ينعت صاحبه بالساحر، أو المهبول والمخبول والشيطان، وما قصة وادي عبقر إلا خير دليل على هذا:
"وادي عبقر يقع في نجد وهو وادٍ سحيق، واذا قيل فلان (عبقري) فهو نسبة إلى وادي عبقر. وتقول الروايات إن هذا الوادي تسكنه شعراء الجن منذ زمن طويل، ويقال إن من أمسى ليلة في هذا الوادي جاءه شاعر أو شاعرة من الجن تلقنه الشعر، وأن كل شاعر من شعراء الجاهليه كان له قرين من هذا الوادي يلقنه الشعر.
مثل:- لافظ بن لاحظ جن صاحب امرؤ القيس
هبيد بن الصلادم جن صاحب عبيد بن الأبرص
هاذر بن ماهر جن صاحب النابغة الذبياني
مدرك بن واغم جن صاحب الكميت بن زيد."
(عن ويكيبيديا العربية)
3-   الهلوسة بالأدب الفرنسي:
في القرن التاسع عشر، مع الرومنسية التي تمردت على العقل والعقلانية الكلاسيكية، ومع ظهورالتحليل النفسي، لم يعد الإبداع خاضعا لقوانين ظلت تتحكم في الذوق الذي كان يراد له أن يكون كونيا، برفضه للذات. أصبحت الذات طليقة حرة، وأصبح الإبداع يهيم في الخيال إلى درجة الهبل. واصبحت الصورة من نتاج الهلوسة الذاتية. هذا ما أبرزه Jean-Louis Cabanès: « Psychologie, histoire, esthétique : les hallucinations à l’entrecroisement des discours »، في : Le numéro 6 des Cahiers de littérature française, dirigé par Paolo Tortonese.
 هنا يشير الكاتب إلى نوع الهلوسة التي تهم المبدع، في استعماله صورا غريبة، لكنها لا تعتبر مرضا، بل تدخل في مجال الإبداع. ما يبرهن على ذلك هو نعت الشاعر فيكتور هيجو ب:  الساحر المتنبئ. نعت سوف يلصق كذلك ببودلير....صفة تضفي نوعا من الحكمة على الشاعر..وهكذا تبدو الهلوسة التي تحتل مكانة مركزية في الصيرورة الإبداعية، على أنها نتاج الذاكرة أي "إحياء الأحاسيس المنسية"، ونتاج الخيال الذي يبدع انطلاقا من الجمال المثالي.
أما في القرن العشرين، فإن الدادائية والسريالية والتكعيبية إلخ..أعطت الضوء الأخضر للهلوسة نتيجة الصدمة التي تلقاها الإنسان الغربي على إثر الحرب العالمية الأولى. صدمة برهنت على أن السعادة التي تغنى بها العقل منذ النهضة، ما هي إلا سراب. ودعت الدادائية، بنوع من الهلوسة، إلى رفض وهدم كل شيء، والانطلاق من جديد، بل ذهبت إلى حد تمجيد الحرب لهدم كل شيء. إلا أن السريالية التي تأثرت بداية بها، انفصلت عنها رافضة فكرة الحرب والهدم، لكنها تأثرت بالتحليل النفسي، واستقر رأيها على صدق الإبداع انطلاقا من الهو، لأن كل ما ينتمي للعقل، ما هو إلا نفاق و لا يعبر عن صدق مشاعر الإنسان. كتابات السرياليين تتميز بنوع من الهلوسة الإيبناغوجية Etat hypnagogique، أي الكتابة خلال لحظة تقع بين النوم واليقظة، حيث لا بستطيع العقل التحكم في الإبداع، وهكذا لا يؤثر سلبا في هذه العملية. للإشارة فإن ديوان روبير ديسنوس: Corps et biens، كتب تحت تأثير الهلوسة الإيبناغوجية. زيادة على هذا، تعتبر الكتابة الأوتوماتيكية، والكتابة المدعمة بالكولاج (صور، لوحات إلخ)، تقنيات يعتمدها السورياليون الذين يؤمنون كذلك بالكتابة الجماعية، كما هو الشأن بالنسبة لتقنية ما يسمى ب: "الجثة اللذيذة Le cadavre exquis..
4-   ماذا عن السخرية؟
يحاول الأستاذ حسن الراوي توصيف الكتابة الساخرة كما يلي:
" تعتبر الكتابة الساخرة الواعية من أجمل أنواع الكتابات وأصعبها بلا شك، فالسخرية الحقّة هي قمة الإحساس بأهمية الأمر، وهي الضحكة المُرّة بوجهٍ باسم، وهي الشعور الحزين بثوب متفائل، وهي المعبر الكبير نحو الأمل رغم زيف الضحكات. لن تكون الكتابة الساخرة كتابة جميلة إلا بتمييز الكاتب الفرق بين السخرية المسؤولة الواعية ... وبين السخرية لمجرّد السخرية ولمجرّد الاستنقاص من قدر الآخرين والتجريح بهم. الكتابة الساخرة تريد من الكاتب قبل ارتكابها أن يمسك في يده مشرطاً لا قلما، حتى يكون دقيقاً في سير سطوره، وحتى يتسنى له أن ينتقل من فقرة لفقرة بخفة وسهولة، وحتى يتوّجس بمشرطه أين يكون مصدر الألم. يظن بعض الكُتاب للأسف أن الكتابة الساخرة هي مجرّد التهريج بتوافه الأمور، والتجريح بكرامة الآخرين، وتعاطي كلمات ومصطلحات سوقية عدة عبر كتاباتهم! لا، إن الكتابة الساخرة لا يُجيد قيادتها كل كاتب أراد أن يمتطي صهوتها إلا من كان فعلاً ذو روح ساخرة حيث أن فاقد الشيء لا يعطيه، وهي أرفع قدراً من التجريح والتهريج، لأن السخرية الواعية المسؤولة هي أداة من أدوات التوجيه والنقد، ولا شك أنها تضع الإصبع فوق الجرح، وتبين مكمن الضعف والخلل، ولكن بشكل وأسلوب غير مباشر." (الحوار المتمدن)
"أمثلة من الأدب الساخر أوردها الأستاذ السبع في مواقف سجلها التاريخ بقديمه وحديثه على المستوى العربي والعالمي، كما استعرض مجموعة أسماء لأدباء هذا الفن عبر العصور، معرفا بهم بشكل مختصر، وقارئا لنماذج من أدبهم، ومنهم الجاحظ وعلي بن سودون البشبغاوي في العصر القديم، وموليير، وجورج برنارد شو، ومارك تون، وعبد الحميد الديب، وحسين شفيق المصري، وجورج جرداق في العصر الحديث." (الحوار المتمدن)
حسب الأستاذ العتيبي:" (...) في التاريخ العربي تراثٌ مثير من الأدب الساخر يمتد من عصر الجاهلية حتى يومنا هذا مروراً بالعصر النبوي فالراشدي فالأموي فالعباسي، تناقلته الكتب بشتى تصنيفاتها، وكتب فيه جماعات من العلماء، منهم الأدباء والفقهاء والمحدِّثون وأهل الكلام والفلاسفة." (الحوار المتمدن).
5-   هوس الإبداع
ونحن ننظم هذا اللقاء تحت شعار: السخرية في الأدب وسخرية الأدب، إنما اعترافا منا بأهميته، وتماشيا مع منتوج فرض نفسه على كل الأصعدة: الصحافة والإعلام والأنترنيت. هو نتاج حالة نفسية يعيشها المبدع الواعي بمجتمعه، نتاج حالة خراب ربما تقربنا من الحالة النفسية للسرياليين، نظرا للأزمات الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي خلقت نوعا مت التوتر لدى المواطن المبدع، نتيجة لفقدان الأمل والضبابية التي تميز مستقبل شباب طال انتظاره...ظل ينتظر التنمية الثقافية والاقتصادية..ظل ينتظر انقشاع بريق أمل ينسي النكسات والعتمات...شبابا انتابته فكرة العبث..رغم تشبثه بقيمه الأخلاقية والثقافية..العبث بالمفهوم الوجودي أحيانا، حيث يريد أجوبة إنسانية، لمشاكله الوجودية..لأن العبث يأتي نتيجة النداء الإنساني أثناء مجابهته لصمت العالم اللامعقول، كما اشار إليه الفيلسوف ألبير كامو.
لهذا جاءت نصوص المهلوسين غنية من هذه الناحية حيث تطرقت إلى:
-      الظواهر المشينة والسلبية في مجال الثقافة: الزبونية في تنظيم اللقاءات، والليبيدو الذي يتحكم فيها، والنقد المغشوش الذي يحابي الأصدقاء، وإفساد الذوق لدى المتلقين..
-      اليأس الاجتماعي نتيجة للعطالة المفرطة والأزمات الاقتصادية..
-      اليأس أمام الفاعلين السياسيين الذين برهنوا عن عدم قدرتهم لإيجاد الحلول للمشاكل الاجتماعية والثقافية، وبرهنوا عن انتهازيتهم..
-      اليأس أمام بعض الظواهر التي تبرز النفاق الديني، حيث أصبح الدين مطية للتقرب من السلطة يل والتمكن منها..نقد ساخر إذا لتسييس الدين...
-      نقد العلاقة المصلحية المبنية على فكر الزاوية: هكذا يعارضون هذه العلاقة بطريقة تجمعهم على شكل "زاوية"، له شيخها (زروال)..
-      اليأس أمام فشل المبادرات لاسترداد الحقوق على الصعيد العربي الإسلامي، القضية الفلسطينية كمثال، الحرب على العراق، الربيع العربي إلخ...
أما فيما يخص خصوصية النصوص التي من خلالها يمررون سخريتهم، فهي لا تنتمي إلى جنس واحد، إنها تخترق مجموعة من "الأجناس" التي تحاول تكريس ذاتها؛ حيث نجد القصة القصيرة جدا، والمقامة، والومضة الشعرية، والمسرح، والمقالة الصحفية إلخ... ولو أن البعض منهم يصبو إلى خلق جنس جديد، يؤسس للهلوسة بشكل متميز، رافضا ما سبق ذكره.
يعتير إذا هذا اللقاء الذي رحب به مسيري المقهى الأدب بوجدة بمثابة تشجيع لكل ما يصبو إلى طرح أسئلة ما أحوجنا إليها في الحقل الأدبي والثقافي. أسئلة تنم عن وعي بضرورة خلخلة الإنتاج الأدبي الذي ما لبث يستنسخ تجارب الأولين، رغم بعض الانزياحات عن المألوف التي حاولت دخول مغامرة الإبداع بشكل متميز. هي إذا مغامرة محفوفة بانتقادات المحافظين الذين يتشبثون بالمألوف مخافة من كل محاولة جريئة تتمرد على هذا المألوف للدفع بالإبداع إلى الأمام، وتحريك ماء البرك الآسنة. فعلى المهلوسين أن يكونوا واعين بأن أقلاما محافظة تُشحد لتربكهم، عليهم إذا تقعيد تجربتهم على أسس صلبة، لا تجرفها المياه الآسنة التي سوف يحركونها لتصبح مياها جارية متحركة ومؤكسجنة ....
*****

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م