قصة
قصيرة
" منذ الألف الثالثة قبل
الميلاد"
محمد
مباركي / وجدة / المغرب
من
شرفة بناية من طابق واحد، وسط حديقة غرس فيها بستاني هرم أنواعا خاصة من الورود في
شكل دائري، تتوسطها شجرة سرو، في حي يسمى "بايو"، رأيت امرأة متوسطة
العمر، تجلس على كرسي هزّاز ذي مسندين، رأيتها تقضم قطعة شوكلاطة. سحرتني بوجهها
البدري. وقفتُ تحت شرفها وكعاشق "لاتيني"
قادم من "لاپاز"، عزفت لها لحنا على قيثارتي الإسبانية الصنع وغنيتُ لها
أغنية أحفظها منذ صغري. استللتها من شريط مغنية يهودية مغاربية تسمى "زيفورا"..
مسحورة بالأغنية، أطلّتْ علي سيّدة الشرفة،
وكفّت عن قضم قطعة الشوكلاطة.. رأيتُ الإعجاب والحبّ في عينيها العسليتين
الناعستين.. فجأة أشارتْ إليّ بيد منحوتة
كقضيب الريحان، طلبتْ مني صعود الأدراج إليها.. صَعِدْتُ ماسكا بطرف خيط غوايتها غير
المرئي، جرّتني من أعماقي، حتى وجدت نفسي أجلس القرفصاء عند قدميها وأنظر إلى
وجهها كقط مسحور.. ابتسمتْ، فغارتْ من ابتسامتها الشمسُ وسارعت إلى الاختفاء وراء
غيمة عابرة كتلك الغيمة التي كلّمها هارون الرشيد من شرفة قصره.. مرّرتْ المرأة ظهر
يدها الناعم على خدي الأيمن، فاقشعرت كل خليّة في بدني وسرتْ في جسدي حرارة
استوائية، أرغمتني على التخلّص من بعض ملابسي.. رميتها من الشرفة إلى الشارع. سقطت
على وجه طفل يبيع السجائر بالتقسيط. كومها
تحت إبطه وجرى بها فرحا. ابتسمتِ المرأة
للمنظر والتفتتْ إلي وسألتني بحنان: من أنت أيها الشاب؟
قلت
بمسكنة زائدة: عاشق يا سيّدتي..
ابتسمتْ
ابتسامة ملائكية، أبانت عن أسنان مرصّعة كحبات مرجان مصفوفةٍ في عقدِ جيدِ أميرةٍ
خارجةٍ على التو من كتاب ألف ليلة وليلة..
وسألتني
ثانية برقة أكبر: منذ متى وأنت على هذه الحال؟
قلت
بالمسكنة الزائدة ذاتها: منذ الألف الثالثة قبل الميلاد..
باندهاش
سألتْ: منذ الألف الثالثة قبل الميلاد؟!
قلت:
أجل يا سيّدتي..
قالت: وأين
كنت طول هاته المدّة؟
قلت: كنت
طول هاته المدّة ساقة أسقي الماء للطلبة وأزاحمهم في الجلوس إلى فيلسوف يوناني
أنهل من معين أفكاره..
قالت:
أنت يوناني إذن؟
قلت:
لا يا سيدتي، أنا مغربي من الحدود إلى المحيط..
قالت: ومن
أي مدينة أنت؟
قلت:
والله حيرّني سؤالك.. أأقول لك أنا من وجدةَ أم من أبركان.