الطيب هلو
تقديم:
اختارت الشاعرة حياة بلغربي ـ على منوال جل الشواعرـ الانحياز إلى
قصيدة النثر لما تقدمه من حرية تناسب بوحها الأنثوي، لكنها في ذات الآن
شحنت نصوصها بإيقاعات داخلية رممت ما يحتمل أن يتركه غياب الوزن من شقوق،
كما احتفظت بالقوافي ونوعت فيها بين متواطئة ومرسلة ومتراسلة ومتقاطعة، مما
أعطى نصوص ديوانها ذلك الزخم الموسيقي الضروري لكل نص شعري جميل. كما
اختارت الشاعرة حياة بلغربي اجتراح شذرات رائقة تجمع بين عمق الرؤية وجمال
التعبير، مما مكنها من تخليص نصوص ديوانها من الزوائد التي ترهل جسد النص،
متبعة في ذلك حمية إبداعية صارمة وهبت النصوص جمالها وجعلتها جديرة
بالتعبير عن روح عصرها.
هذه ملاحظات عامة عن باكورة أعمال الشاعرة
حياة بلغربي (بلقيس) والموسومة ب"واحة بين حريقين" تحتاج إلى حيز أكبر
لتحليلها وبيان قيمتها الجمالية والفنية والموضوعية، هذه القيمة التي تمنح
القارئ المتذوق مساحة وارفة الإمتاع. ف"واحة بين حريقين" بوح شفيف لذات
رومانسية حالمة، تقترف الراهن بكل ما فيه من متعة وألم، وتحلم بآفاق أوسع،
تعيش فيها بحرية لتتحقق كل أحلامها المؤجلة، في لحظات من العمر لا يكدر
صفوها منغص. وبين الواقع والحلم تؤثث الشاعرة " واحتها " بما استطاعت من
جمالية اللغة وعذب الإيقاع واتساع الرؤيا التي تضيق في وصفها العبارة
النقدية.
شعرية الوسط في "واحة بين حريقين"
تمنح الشاعرة
"الوسط" شعريته من خلال مستويات عدة؛ دلالية وإيقاعية وأسلوبية، لكننا
سنركز على البعد الدلالي الذي يتجلى من خلال التكرار اللافت للفظة "بين"،
والتي ملّكها هذا الترديد سلطة داخل النص من جهة، وجعل الديوان يحصل على
بصمة خاصة به، تميزه وتوحد بين نصوصه كعلامة عليه. ذلك أن الشاعرة منذ
العنوان تنحاز إلى هذه "البينية". إنها دال شعري يستوطن "واحة بين حريقين".
إن لفظة "بين" بقدر ما تجعل المتلقي يحس بوجود الطرفين، يكتشف
استعذاب الذات الشاعرة الوجود بينهما. ذلك أن موقع البينية هو المكان الآمن
والملاذ من عذاب الحريقين معا. حريقان منكّران لغة، مما يفتح نوافذ
التأويل مشرعة لمعرفة معناهما، وإذا كانت الشاعرة لم تسم أي نص بهذا
العنوان فلتمنح القارئ أحد مفاتيح التأويل للقارئ بقولها:
أنت الفارس الذي
أضاع وجهته
وأنا
واحة بين حريقين (ص 42)
فالواحة هي الذات، هي المرغوب الذي يبحث عنه الفارس الذي أخطأ الوجهة، وهي واحة وما سواها ضياع وضلال.
لن نقف عن هذه الدلالة البدئية للعنوان، وإنما سنحاول تتبع مظاهر
البينية في الديوان لاكتشاف كل معادلات الواحة الممكنة وكل الحرائق
المحتملة.
إن سؤال البينية سؤال عميق في تراثنا الشعري منذ أن
وقف امرؤ القيس على طلل يبكي أحبته "بين الدخول وحومل". إنه استدعاء لذات
الموقف واكتواء بنار الفراق ذاته. ألا يمكن عدّ الفارس المضيع وجهته هو كل
شاعر أضاع طلله/ أضاع أحبته.
تطّرد البينية في الديوان بشكل لافت،
فمنذ القصيدة الأولى "غفران" تقف الذات الشاعرة بين عالمين، ولعل أحدهما
هذا الحلم السريعُ العبورِ الذي يغادر قبل أن ينتصف الجرح. تقول الشاعرة:
تأتي مساء
وتغادر قبل أن
ينتصف جرحي
وأنا بين الحلمين
ألعن احتراقي
وأنشد اللحظات التي
تستبيح الموت الدائم
في هذا المقطع القصير تكثيف لهذه البينية. إنها بينية:
أ ـ بين حلمين
ب ـ بين واقع (احتراقي) وأمل (أنشد اللحظات ...)
ج ـ بين الحضور(تأتي) والغياب (تغادر)
إنه تكثيف عميق في وصف انكسارات الذات الحالمة الرومانسية، ذات تتمنى أن يهبها الليل عناقا من دفء الحبيب و تعترف
إني أتضور شوقا
لحضنه الآثم. (قصيدة غفران ـ ص11)
إنها ذات متوارية، تسعفها البينية أن تعلن عن موقع وجودها كأي معنى هارب بين السطور.
هاأنا ذي أجيء متخفية
بين سطوري.(ص13)
وبذلك تتجاوز ذاتها الإنسانية لتتوحد بالمعنى العميق الذي لا يدرك إلا
بالنبش بين السطور وبالتأويل المانح للذات معنى إضافيا. كما تسعف أيضا في
تكريس وتوطيد المسافة مع العاشق الفارس الذي أخطأ وجهته وتاه عن اكتشاف
الطريق إلى الواحة، كما تؤكد الذات المسافة مع الليل الذي ترجته في أكثر من
موقع من الديوان أن يمنحها العناق والسكون واللذة. وها هي ذي تسأله عما
بينهما وبين الحبيب من الطلقات.
حبيبي جالس قرب
بندقيته
و أنا اسأل الليل
عن عدد الطلقات
التي بيننا . (ص 16 ـ قصيدة ماذا يقول الكناري)
بين الذات والحبيب طلقات / حروب، وأكثر من ذلك بينهما وسيط هو الليل،
الذي تسأله الذات الشاعرة. إن السؤال لم يكن موجها للفارس/ الحبيب الذي كان
يجلس قرب بندقيته بدل أن يجالس الحبيبة. وهذا مظهر آخر لفقدانه بوصلة الحب
وضياعه عن الواحة/ الحبيبة. وتمعن الشاعرة في تأكيد المسافة والعبور
السريع عندما تختار التذكر سبيلا للمناجاة (تذكّرني) وحين تختار معالم
السرعة والذبول (الوردة) و(والغفوتين ) لترسم المأساة... إنها ليست سوى
وردة عابرة في نوم سريع (بين غفوتين) تقول:
تذكرني بوردة
بين غفوتين
إني تركت قصيدتي
على مرفأ الليل
وجئت عارية اليدين (ص30)
ومضة شعرية باذخة الجمال، سامقة الإيقاع، تمنح "البينية"
كثافة وعمقا، فلا أقصر عمرا من وردة، ولا أسرع من لحظة يقظة بين غفوتين.
إنه تعبير رائع عن بلاغة الخيبة والفقدان (ترك القصيدة على مرفأ الليل ـ
المجيء عارية اليدين ) تعبير تؤكده في مقطع أخر من قصيدة (العنكبوت الصغير)
:
إني موزعة بين احتراقك
واحتراقي
وهو مقطع يضيء بعض غموض العنوان، فالحريقان احتراقان، تتوزع بينهما ذات عاشقة أضناها الهجر وأتعبها البكاء وخذلتها الأماني:
كلما أبكيت ضفائري السوداء
تمنيت لو أن ذاكرتك تضيع بدمي...
إنها ذات باحثة عن مُعِين على الخيبة : من يعين القلب على خيبته
حين أعرف
أني أبعد موج
في دم السندباد (ص36)
ولا يقتصر الوقوف في مهب البينية على الذات الشاعرة، وإنما تتعداه إلى
المخاطب/الراقص على جبل من دخان، حيث تحدد له الشاعرة موقعه الأخير:
أيها الراقص على جبل من دخان
هنا مثواك بين جلنارتين
إن تتبع كل مقاطع البينية في هذا الديوان أمر يطول، ولكن لا بأس من تجميع
كل العبارات الشعرية في هذا الجدول لتوضح قوة هذا الحضور ومساعدة القارئ
على اكتشاف دلالات إضافية.
العبارة الشعرية الصفحة
ـ واحة بين حريقين
ـ ينتصف جرحي وأنا بين حلمين
ـ ها أنا ذي أجيء متخفية بين سطوري
ـ أسأل الليل عن عدد الطلقات التي بيننا
ـ تكره شكي حين أخيرك بين أن أكون أو لا أكون
ـ تذكرني بوردة بين غفوتين
ـ إني موزعة بين احتراقك واحتراقي
ـ هنا مثواك بين جلنارتين
ـ أيها المشرد بين لغتين
ـ في حلم أوصيته أن يأتني بين خريفين
ـ ما الفرق بين الموت وبين رجل يشتهيني وسط الزحام
ـ أنا أجري وأعد الطريق بين الضفة وبينك
ـ تزهو المسافات بين جرح يشتهينا وآخر نشتهيه
ـ وانفجر نهر بين الأصابع
ـ ويصب نهر بين راحتينا
ـ حين لاحت عيناك واختلت بيني وبيني
ـ العنوان ـ ص42
ـ ص11
ـ ص 13
ـ ص16
ـ ص18
ـ ص 30
ـ ص 35
ـ ص 41
ـ ص 42
ـ ص 54
ـ ص72
ـ ص 73
ـ ص 74
ـ ص77
ـ ص 80
ـ ص 85
على سبيل الختم
تتشكل شعرية الوسط في هذا الديوان من خلال ثلاثة مستويات:
1 ـ المستوى الدلالي من خلال البينية، والتي جاءت لتكرس الاغتراب والحزن
والخيبة، وتعكس الفرقة والوصال، وتكثف قوة الخسارة والفقدان، وترسم ملامح
الضياع والتيه. إنها تمنح الديوان رؤيا عميقة ترفع عنه تلعثم البدايات
وتجعل خطوات الشاعرة في هذا الديوان الأول خطوات واثقة نحو القصيدة
الحقيقية.
2 ـ المستوى الإيقاعي: حيث جاءت القصائد وسطا بين الشعر
التفعيلي في الحرص على القوافي والإيقاعات الداخلية القوية والواضحة،
المانحة للنصوص طاقة موسيقية لا تنكر وببن قصيدة النثر في انسيابيتها
وألقها وفي تخلصها من كل ما يثقل النص من الزوائد.
3 ـ المستوى
الأسلوبي: إذ نكتشف أن الشاعرة حياة بلغربي جاءت إلى القصيدة مدججة بمخزون
تراثي غزير، يحتل فيه القرآن حيزا كبيرا من خلال اشتغالها على جمالية
الاستدعاء، إنها تستدعي آيات قرآنية كثيرة، تمتص نسغها لتدخله في نسيج النص
دون تكلف ولا إقحام مجاني. ومن أمثلة ذلك: الليل تعسعس (ص11) ـ سبع قبلات
خضر وأخر يابسات (ص24) ـ وأنا أوهن من شع عنكبوتك (ص37) ـ أحلامنا العجاف
(ص39) ـ سيماهم في وجوههم من أثر السهاد (ص 44) ـ أقبض على اغترابك وأدسه
على هون في التراب (ص45) ـ أنت المخلوق في كبد (ص45) ـ لا تستسلم لتعبك هذا
الملعون/ إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث (ص 47) ـ نخلة في دمه أسقط
رطبي (ص57) ـ وأخاف أن تصدق الريح وقلبي من الكاذبين (ص 62) ـ وليس في
الجوف إلا قلب واحد (ص63) ـ ذاك مغتسل بارد وشراب (ص77) ـ انزعي أساورك
خلاخلك أنت تحت مطر مقدس (ص78) ـ ها تعود مترنحا تقلب مجونك ذات اليمين
وذات الشمال وقلبك باسط ذراعيه للريح (ص 93) ـ كم سيواري الغراب سوادك
(ص94) ـ لو أن ما خلف الأحداق يحتمل زبدا رابيا (ص 95)
كما تستدعي مأثورات قديمة ك"الوقت كالسيف أن لم تقطعه قطعك" في قولها:
انج
استعطف الوقت
قبل أن يقطعك (ص18)
كما تستدعي لوركا وشكسبير والسندباد وشهرزاد وآدم وغيرها من الرموز مما يغني لغة النص الشعري ويقوي أسلوبه.
في ختام هذا السفر داخل "واحة بين حريقين" أرجو أني استطعت أن أنقل
للقارئ بعض ما غمرني من متعة وأنا أتجول في هذه الواحة الشعرية الوارفة
بظلال اللغة الأنيقة الجميلة والمعنى العميق والإيقاع الجميل.
* ـ حياة بلغربي (بلقيس)، واحة بين حريقين، دار العالمية للنشر، الطبعة الأولى 2012
الطيب هلو
تقديم:
اختارت الشاعرة حياة بلغربي ـ على منوال جل الشواعرـ الانحياز إلى قصيدة النثر لما تقدمه من حرية تناسب بوحها الأنثوي، لكنها في ذات الآن شحنت نصوصها بإيقاعات داخلية رممت ما يحتمل أن يتركه غياب الوزن من شقوق، كما احتفظت بالقوافي ونوعت فيها بين متواطئة ومرسلة ومتراسلة ومتقاطعة، مما أعطى نصوص ديوانها ذلك الزخم الموسيقي الضروري لكل نص شعري جميل. كما اختارت الشاعرة حياة بلغربي اجتراح شذرات رائقة تجمع بين عمق الرؤية وجمال التعبير، مما مكنها من تخليص نصوص ديوانها من الزوائد التي ترهل جسد النص، متبعة في ذلك حمية إبداعية صارمة وهبت النصوص جمالها وجعلتها جديرة بالتعبير عن روح عصرها.
هذه ملاحظات عامة عن باكورة أعمال الشاعرة حياة بلغربي (بلقيس) والموسومة ب"واحة بين حريقين" تحتاج إلى حيز أكبر لتحليلها وبيان قيمتها الجمالية والفنية والموضوعية، هذه القيمة التي تمنح القارئ المتذوق مساحة وارفة الإمتاع. ف"واحة بين حريقين" بوح شفيف لذات رومانسية حالمة، تقترف الراهن بكل ما فيه من متعة وألم، وتحلم بآفاق أوسع، تعيش فيها بحرية لتتحقق كل أحلامها المؤجلة، في لحظات من العمر لا يكدر صفوها منغص. وبين الواقع والحلم تؤثث الشاعرة " واحتها " بما استطاعت من جمالية اللغة وعذب الإيقاع واتساع الرؤيا التي تضيق في وصفها العبارة النقدية.
شعرية الوسط في "واحة بين حريقين"
تمنح الشاعرة "الوسط" شعريته من خلال مستويات عدة؛ دلالية وإيقاعية وأسلوبية، لكننا سنركز على البعد الدلالي الذي يتجلى من خلال التكرار اللافت للفظة "بين"، والتي ملّكها هذا الترديد سلطة داخل النص من جهة، وجعل الديوان يحصل على بصمة خاصة به، تميزه وتوحد بين نصوصه كعلامة عليه. ذلك أن الشاعرة منذ العنوان تنحاز إلى هذه "البينية". إنها دال شعري يستوطن "واحة بين حريقين".
إن لفظة "بين" بقدر ما تجعل المتلقي يحس بوجود الطرفين، يكتشف استعذاب الذات الشاعرة الوجود بينهما. ذلك أن موقع البينية هو المكان الآمن والملاذ من عذاب الحريقين معا. حريقان منكّران لغة، مما يفتح نوافذ التأويل مشرعة لمعرفة معناهما، وإذا كانت الشاعرة لم تسم أي نص بهذا العنوان فلتمنح القارئ أحد مفاتيح التأويل للقارئ بقولها:
أنت الفارس الذي
أضاع وجهته
وأنا
واحة بين حريقين (ص 42)
فالواحة هي الذات، هي المرغوب الذي يبحث عنه الفارس الذي أخطأ الوجهة، وهي واحة وما سواها ضياع وضلال.
لن نقف عن هذه الدلالة البدئية للعنوان، وإنما سنحاول تتبع مظاهر البينية في الديوان لاكتشاف كل معادلات الواحة الممكنة وكل الحرائق المحتملة.
إن سؤال البينية سؤال عميق في تراثنا الشعري منذ أن وقف امرؤ القيس على طلل يبكي أحبته "بين الدخول وحومل". إنه استدعاء لذات الموقف واكتواء بنار الفراق ذاته. ألا يمكن عدّ الفارس المضيع وجهته هو كل شاعر أضاع طلله/ أضاع أحبته.
تطّرد البينية في الديوان بشكل لافت، فمنذ القصيدة الأولى "غفران" تقف الذات الشاعرة بين عالمين، ولعل أحدهما هذا الحلم السريعُ العبورِ الذي يغادر قبل أن ينتصف الجرح. تقول الشاعرة:
تأتي مساء
وتغادر قبل أن
ينتصف جرحي
وأنا بين الحلمين
ألعن احتراقي
وأنشد اللحظات التي
تستبيح الموت الدائم
في هذا المقطع القصير تكثيف لهذه البينية. إنها بينية:
أ ـ بين حلمين
ب ـ بين واقع (احتراقي) وأمل (أنشد اللحظات ...)
ج ـ بين الحضور(تأتي) والغياب (تغادر)
إنه تكثيف عميق في وصف انكسارات الذات الحالمة الرومانسية، ذات تتمنى أن يهبها الليل عناقا من دفء الحبيب و تعترف
إني أتضور شوقا
لحضنه الآثم. (قصيدة غفران ـ ص11)
إنها ذات متوارية، تسعفها البينية أن تعلن عن موقع وجودها كأي معنى هارب بين السطور.
هاأنا ذي أجيء متخفية
بين سطوري.(ص13)
وبذلك تتجاوز ذاتها الإنسانية لتتوحد بالمعنى العميق الذي لا يدرك إلا بالنبش بين السطور وبالتأويل المانح للذات معنى إضافيا. كما تسعف أيضا في تكريس وتوطيد المسافة مع العاشق الفارس الذي أخطأ وجهته وتاه عن اكتشاف الطريق إلى الواحة، كما تؤكد الذات المسافة مع الليل الذي ترجته في أكثر من موقع من الديوان أن يمنحها العناق والسكون واللذة. وها هي ذي تسأله عما بينهما وبين الحبيب من الطلقات.
حبيبي جالس قرب
بندقيته
و أنا اسأل الليل
عن عدد الطلقات
التي بيننا . (ص 16 ـ قصيدة ماذا يقول الكناري)
بين الذات والحبيب طلقات / حروب، وأكثر من ذلك بينهما وسيط هو الليل، الذي تسأله الذات الشاعرة. إن السؤال لم يكن موجها للفارس/ الحبيب الذي كان يجلس قرب بندقيته بدل أن يجالس الحبيبة. وهذا مظهر آخر لفقدانه بوصلة الحب وضياعه عن الواحة/ الحبيبة. وتمعن الشاعرة في تأكيد المسافة والعبور السريع عندما تختار التذكر سبيلا للمناجاة (تذكّرني) وحين تختار معالم السرعة والذبول (الوردة) و(والغفوتين ) لترسم المأساة... إنها ليست سوى وردة عابرة في نوم سريع (بين غفوتين) تقول:
تذكرني بوردة
بين غفوتين
إني تركت قصيدتي
على مرفأ الليل
وجئت عارية اليدين (ص30)
ومضة شعرية باذخة الجمال، سامقة الإيقاع، تمنح "البينية" كثافة وعمقا، فلا أقصر عمرا من وردة، ولا أسرع من لحظة يقظة بين غفوتين. إنه تعبير رائع عن بلاغة الخيبة والفقدان (ترك القصيدة على مرفأ الليل ـ المجيء عارية اليدين ) تعبير تؤكده في مقطع أخر من قصيدة (العنكبوت الصغير) :
إني موزعة بين احتراقك
واحتراقي
وهو مقطع يضيء بعض غموض العنوان، فالحريقان احتراقان، تتوزع بينهما ذات عاشقة أضناها الهجر وأتعبها البكاء وخذلتها الأماني:
كلما أبكيت ضفائري السوداء
تمنيت لو أن ذاكرتك تضيع بدمي...
إنها ذات باحثة عن مُعِين على الخيبة : من يعين القلب على خيبته
حين أعرف
أني أبعد موج
في دم السندباد (ص36)
ولا يقتصر الوقوف في مهب البينية على الذات الشاعرة، وإنما تتعداه إلى المخاطب/الراقص على جبل من دخان، حيث تحدد له الشاعرة موقعه الأخير:
أيها الراقص على جبل من دخان
هنا مثواك بين جلنارتين
إن تتبع كل مقاطع البينية في هذا الديوان أمر يطول، ولكن لا بأس من تجميع كل العبارات الشعرية في هذا الجدول لتوضح قوة هذا الحضور ومساعدة القارئ على اكتشاف دلالات إضافية.
العبارة الشعرية الصفحة
ـ واحة بين حريقين
ـ ينتصف جرحي وأنا بين حلمين
ـ ها أنا ذي أجيء متخفية بين سطوري
ـ أسأل الليل عن عدد الطلقات التي بيننا
ـ تكره شكي حين أخيرك بين أن أكون أو لا أكون
ـ تذكرني بوردة بين غفوتين
ـ إني موزعة بين احتراقك واحتراقي
ـ هنا مثواك بين جلنارتين
ـ أيها المشرد بين لغتين
ـ في حلم أوصيته أن يأتني بين خريفين
ـ ما الفرق بين الموت وبين رجل يشتهيني وسط الزحام
ـ أنا أجري وأعد الطريق بين الضفة وبينك
ـ تزهو المسافات بين جرح يشتهينا وآخر نشتهيه
ـ وانفجر نهر بين الأصابع
ـ ويصب نهر بين راحتينا
ـ حين لاحت عيناك واختلت بيني وبيني
ـ العنوان ـ ص42
ـ ص11
ـ ص 13
ـ ص16
ـ ص18
ـ ص 30
ـ ص 35
ـ ص 41
ـ ص 42
ـ ص 54
ـ ص72
ـ ص 73
ـ ص 74
ـ ص77
ـ ص 80
ـ ص 85
على سبيل الختم
تتشكل شعرية الوسط في هذا الديوان من خلال ثلاثة مستويات:
1 ـ المستوى الدلالي من خلال البينية، والتي جاءت لتكرس الاغتراب والحزن والخيبة، وتعكس الفرقة والوصال، وتكثف قوة الخسارة والفقدان، وترسم ملامح الضياع والتيه. إنها تمنح الديوان رؤيا عميقة ترفع عنه تلعثم البدايات وتجعل خطوات الشاعرة في هذا الديوان الأول خطوات واثقة نحو القصيدة الحقيقية.
2 ـ المستوى الإيقاعي: حيث جاءت القصائد وسطا بين الشعر التفعيلي في الحرص على القوافي والإيقاعات الداخلية القوية والواضحة، المانحة للنصوص طاقة موسيقية لا تنكر وببن قصيدة النثر في انسيابيتها وألقها وفي تخلصها من كل ما يثقل النص من الزوائد.
3 ـ المستوى الأسلوبي: إذ نكتشف أن الشاعرة حياة بلغربي جاءت إلى القصيدة مدججة بمخزون تراثي غزير، يحتل فيه القرآن حيزا كبيرا من خلال اشتغالها على جمالية الاستدعاء، إنها تستدعي آيات قرآنية كثيرة، تمتص نسغها لتدخله في نسيج النص دون تكلف ولا إقحام مجاني. ومن أمثلة ذلك: الليل تعسعس (ص11) ـ سبع قبلات خضر وأخر يابسات (ص24) ـ وأنا أوهن من شع عنكبوتك (ص37) ـ أحلامنا العجاف (ص39) ـ سيماهم في وجوههم من أثر السهاد (ص 44) ـ أقبض على اغترابك وأدسه على هون في التراب (ص45) ـ أنت المخلوق في كبد (ص45) ـ لا تستسلم لتعبك هذا الملعون/ إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث (ص 47) ـ نخلة في دمه أسقط رطبي (ص57) ـ وأخاف أن تصدق الريح وقلبي من الكاذبين (ص 62) ـ وليس في الجوف إلا قلب واحد (ص63) ـ ذاك مغتسل بارد وشراب (ص77) ـ انزعي أساورك خلاخلك أنت تحت مطر مقدس (ص78) ـ ها تعود مترنحا تقلب مجونك ذات اليمين وذات الشمال وقلبك باسط ذراعيه للريح (ص 93) ـ كم سيواري الغراب سوادك (ص94) ـ لو أن ما خلف الأحداق يحتمل زبدا رابيا (ص 95)
كما تستدعي مأثورات قديمة ك"الوقت كالسيف أن لم تقطعه قطعك" في قولها:
انج
استعطف الوقت
قبل أن يقطعك (ص18)
كما تستدعي لوركا وشكسبير والسندباد وشهرزاد وآدم وغيرها من الرموز مما يغني لغة النص الشعري ويقوي أسلوبه.
في ختام هذا السفر داخل "واحة بين حريقين" أرجو أني استطعت أن أنقل للقارئ بعض ما غمرني من متعة وأنا أتجول في هذه الواحة الشعرية الوارفة بظلال اللغة الأنيقة الجميلة والمعنى العميق والإيقاع الجميل.
* ـ حياة بلغربي (بلقيس)، واحة بين حريقين، دار العالمية للنشر، الطبعة الأولى 2012