الأفيون و الذاكرة الجزء 4 و5
للروائي يحيى بزغود
4
بعد غياب امتد بضعة أشهر، جاء "إدريس بن رحال" ذات صباح من صباحات
يوليو، فاصطحب معه خاله "رمضان الواسيني"، وتقدم لخطبة الباتول من أبيها
"عبد الله القصاب".
كانت الباتول شابة بلغت حوالي السادسة عشرة من عمرها تقريبا، أخذت من والدها شبها، فَقُُدّ قوامُها من بان؛ أسيلةَ الخد، كحيلةَ العينين، ذاتَ سالف رطب داجي اللون، تمتد ضفيرتُه حتى الخصر، ولم تكن تغادر بيت والدها إلَّا لماما، فإذا اضطرت لقضاء بعض الأغراض عندنا أو عند أسرة رمضان الواسيني، خرجت تمشي الهوينى، فأوفت بما خرجت من أجله، ثم تعود أدراجها إلى البيت من أقصر السبل، فإذا صادف أن خرجت مرّة، تمشي بين الأشجار، وهي ترتدي فستانها الفيروزي، أو ذاك الفستقي اللون بأكمام قرمزية، اشتبك الحسن بالنعومة والرشاقة، فانبهر السحرُ وخشع الجمال !... لذلك نالت إعجاب واحترام الجميع، وحلم بها كل شباب الدوار! ولاشك أن إدريس لمحها في إحدى خرجاتها، فترصد خطواتها من حيث لا تدري، فتعلَّق قلبُه بها، ولاشك أن أمر هذا التعلق قد انتهى إلى أسرتها من خلال أخيها عاشور؛ فلم يتلكأ والدها، في قبول طلب بن رحال بمجرد أن تقدم إليه؛ بعد أن انفرد بابنته لحظات، جريا على العادة، لأخذ رأيها.
كان عبد الله القصاب من ذلك النوع من الرجال الذي لا يقبل الجرجرة أو التماطل في أمور الزواج، لذلك شُرِع، بمجرد إعلان الخطبة وقراءة الفاتحة، في التحضير لحفل الزفاف؛ فأفرغت الغرفة التي كنا ننام فيها، إخوتي وأنا وأولاد رمضان، وأعيد طلاؤها، وزُيِّنت على عجل من أجل استقبال العروسين!...
وأحضرت بعد أيام قليلة، الحصائر والبطانيات والوسائد ومصابيح الكيروزين، وقناديل الكاربيل (الكانكيات)، من أغلب الدور المجاورة، وبسطت الأفرشة على طول الساحة وعرضها؛ وتوافد الرجال والنساء والأطفال، بل رحَلَت أسر بكاملها، تتبعها كلابها من كل الدشور القريبة، واصطحب بعضهم كبشا أو عجلا هدية لأصحاب العرس؛ إذ لم يكن الناس في حاجة إلى دعوة اسمية، فهم يعتبرون التخلف عن مناسبة كهذه إجحافا في حق أصحاب العرس؛ علاوة على أن أيام الحفلات فرص نادرة للفرح والابتهاج وتَصَيُّد الأخبار، لا ينبغي تفويتها بحال!...
وكان والدي كريما كعادته، فعمد إلى ذبح كبشين إضافيين اشتراهما من عند إسماعيل المصمودي، مساهمة منه في الحفل، وقال وهو يفتل شاربيه، ويرمق والدتي التي كانت تتابع فعلته بنظرات تنم عن قلة ارتياح:
- "لا أرضى أن يقول أهل أنـﯕاد كلاما لا يليق ببني خالد!"
فزمّت والدتي شفتيها، تعبيرا عن استهزاء مكتوم، وشنفت إليه بنظرة ثم استدارت لتتمتم بصوت خفيض:
- "ايتونشك ...كيتك في عقلك ...ومن هم بنو خالد في ملك الله؟!"
ومدّّت الموائد ذوات الأرجل القصار، عليها قصعات الكسكس، تعلو قممه قطع شهية من لحم الغنم، تفترش الحمص والزبيب. ثم أحضرت "الصواني" والأباريق والكؤوس، وانبرى لتحضير الشاي رجال مشهود لهم بالتفوق في إعداده... ثم سخنت الدفوف على النار لتجود بأحسن ما فيها من إيقاع، واصطفت النساء ينقرن عليها ويغنين زجلا موزونا يَتَوَزَّعْنَه أشطارا... فاستثيرت حماسة الرجال، فهبوا قبالتهن في صف ينقرون على الدفوف أو على ما وقعت عليه اليد من أوان معدنية... يغنون ويرقصون، في استعراض ظاهر لقوة الصوت ومهارة الإيقاع ودقة الحركة !...
كان الرجال يرفعون أصواتهم مرددين فاتحة النغم: "وها شوفي...شوفي ما جْرى لي عْلى ملـﯕاك " " " " " " "
وتردد النساء نفس الترنيمة بصوت نسوي رخيم...
فتزداد حماسة الرجال فيرفعون أصواتهم أكثر قليلا مرجعين النغم مرات ، قبل أن يتقدموا مُعْسِلين على قدم و نصف دون أن تكف أيديهم على النقر؛ ومن أعوزه شيء ينقر عليه، استعاض عنه بعصا يلوح بها، لتساعده على ضبط حركات الرقص... فيتقدمون وهم يعرجون حتى إذا اقتربوا من صف النساء، خبطوا الأرض بأقدامهم خبطات مضبوطة على لطم الدفوف... ثم يتراجعون القهقرى مترنمين، ليعيدوا الكرّة بقول آخر، يستهلُّه أمهرُهم أو أسرعُهم ارتجالا ليتقدموا من أجل إنجاز شوط جديد!...
"ها... ضوي يا الـﯕمرا ...ضوي عْلى دار الزين.
ضوي يا الـﯕمرا.. " " "
أما الأطفال الذين كان يمنعهم الخجلُ من ولوجِ صف الرجال، فكانوا "يُحَنْقِزون" في الظلام على صدى الإيقاع مقلدين الكبار... بعيدا عن أضواء المصابيح !
كان أخي سليمان أسير اللحظة، مأخوذا بسحر النغم يرتجف بتلقائية وسط الصف، وكان عاشور يبدو أكثر من سنه، وهو يرتدي "فوقية" ويعتمر عمامة، ويلوح بعصا إلى جانب الرجال... يهتز مثلهم في نشوة غامرة لا تقيم وزنا لنظرات بعض الشيوخ المستنكرة تبرُّما بالخروج عن التقاليد، فأن يرقص شاب في عرس أخته، عيب عندهم كبير! بل من العيب أن يبدي أهل الفتاة من الرجال فرحتهم في ليلة عرسها...و إن بعضهم –إخلاصا منهم للتقاليد في مثل هذه المناسبات- ليعترضون سبيل أهل العريس بعصيهم متوعدين، فلا يفتكُّون العروس منهم إلا بعد مشقة، متوسلين بدفع إتاوة تعيد الاعتبار لرجولتهم وشرفهم المهدد بالاغتصاب! أما أن يفرح رجال الفتاة ويرقصوا بتلقائية، فذلك أمر مرادف في فهمهم للقبول الطوعي بهتك العرض!...
وإنك لتعجب كيف أن الناس، وهم يحيون أيامهم العادية في الدوار، يحتشمون من ذكر أبسط الكلمات التي تنم عن شيء من عورة الجسد، ويعتبرون ذلك خدشا للحياء؛ أما الزوجة فلا تنادى باسمها، تحرّجاً، فإذا ذكر الواحد منهم لفظ المرأة وهو يحدثك أتبعه تَوًّا بعبارة حاشاك؛ ولكنهم في مثل هذه المناسبات ـ إذا استخفَّهم الطرب- يتحللون من الممنوع، ويتغنون بما اختفى من جسد الأنثى في غير ما حرج !...
قضى أهل الدوار ليلة العرس في فرحة ومرح، وانصرف الرجال قُبَيْل الفجر، أما النساء فأبين أن يمضين حتى يأخذن خبرا بما حصل في غرفة العروس، وراء "الحجبة"، فبقين حتى خرجت عليهن "صفية" (أم الباتول) متبوعة بنفر من الفتيات، وطافت تلوِّح بقميص أبيض ملطخ بدم أحمر قان... وهن يقابلنها بزغاريد متكررة، تحية إكبار منهن للشرف المصون!
وأقام العروسان في غرفة الزفاف أيّاما، ريثما تدبَّر إدريس بن رحال أمره من أجل الرحيل للإقامة في مدينة وجدة، فلم يعد يزور الضيعة إلا قليلا....
******
أصبح "قويدر" ولد حبيبة منذ زفاف الباتول، عصبي المزاج ولا يتردد في شتم بن رحال غيابيا، الأمر الذي كان سببا في شجاره مع عاشور عدّة مرات.
كنا جميعا نلاحظ أن اعتداد ولد حبيبة بنفسه، منذ أن أصيب على الحدود، أصبح مبالغا فيه، إلى الدرجة التي تبعث على الضيق؛ ولكنْ ، لا أحدَ كان يفهم السبب في تحامله على إدريس بغير مناسبة، حتى صدرت منه عبارات فهمنا منها أن المسكين كان غارقا في حب "الباتول" حبّا جنونيا، ما عرفت به هي إطلاقا...وأدركنا حينها لماذا كان يردّد، باستمرار، مدندنا بلكنته التي تقلب الراء ياءًً:
"مَاشْطَا ذاك السَّالَف ورَشَّاتو بالرْوايَحْ
وحِيثْ أنا وحداني حتى كلامي جاك طايح!... " وفهمنا أخيرا لماذا كان صديقنا يتعب نفسه في إرضاء عاشور ولا يغضبه أبدا!...
كان "قويدر" يبلغ بالكاد الحادية عشرة من عمره، ولم يكن بإمكان أحد أن ينتبه إلى ما يعانيه، فأحرى أن يحمله على محمل الجدّ!...
كان حبّ "قويدر" للباتول حبا طفوليا، عابرا ولاشك، ولكنه مطبوع بالعنف والعناد... ولم يستطع عاشور أن يصبر على تماديه في شتم زوج أخته، فنهره عدّة مرّات، ولكنه لم يزدد إلاّ غلوا، وبلغ به الغضب ذات لحظة أن تحامل على عاشور نفسه صراحة قائلا:
- ما عمَّينا(عمّرنا) شفنا شي ياجل( راجل) يشطح فعيس (فْعرس) أخته حتى شفناك أنت!...
وردَّ عليه عاشور قبل أن يتمها، بلكمة على أنفه أسالت دمه وهو يرغي:
- عاودها مّرة أخرى يا ولد الـفاعلة...!
وتدخلت أنا والعيد ولد رمضان من أجل فك الاشتباك بينهما، فصب قويدر غضبه علينا نحن أيضا، فانفعلت وأشهرت القطيعة معه قائلا:
-"حام...حام" مَنْ هْنا حَتَّى لََلْعام الجّاي !"
وتلك هي العبارة التي كنا نعلن بها القطيعة في حال الخصام !
كانت الباتول شابة بلغت حوالي السادسة عشرة من عمرها تقريبا، أخذت من والدها شبها، فَقُُدّ قوامُها من بان؛ أسيلةَ الخد، كحيلةَ العينين، ذاتَ سالف رطب داجي اللون، تمتد ضفيرتُه حتى الخصر، ولم تكن تغادر بيت والدها إلَّا لماما، فإذا اضطرت لقضاء بعض الأغراض عندنا أو عند أسرة رمضان الواسيني، خرجت تمشي الهوينى، فأوفت بما خرجت من أجله، ثم تعود أدراجها إلى البيت من أقصر السبل، فإذا صادف أن خرجت مرّة، تمشي بين الأشجار، وهي ترتدي فستانها الفيروزي، أو ذاك الفستقي اللون بأكمام قرمزية، اشتبك الحسن بالنعومة والرشاقة، فانبهر السحرُ وخشع الجمال !... لذلك نالت إعجاب واحترام الجميع، وحلم بها كل شباب الدوار! ولاشك أن إدريس لمحها في إحدى خرجاتها، فترصد خطواتها من حيث لا تدري، فتعلَّق قلبُه بها، ولاشك أن أمر هذا التعلق قد انتهى إلى أسرتها من خلال أخيها عاشور؛ فلم يتلكأ والدها، في قبول طلب بن رحال بمجرد أن تقدم إليه؛ بعد أن انفرد بابنته لحظات، جريا على العادة، لأخذ رأيها.
كان عبد الله القصاب من ذلك النوع من الرجال الذي لا يقبل الجرجرة أو التماطل في أمور الزواج، لذلك شُرِع، بمجرد إعلان الخطبة وقراءة الفاتحة، في التحضير لحفل الزفاف؛ فأفرغت الغرفة التي كنا ننام فيها، إخوتي وأنا وأولاد رمضان، وأعيد طلاؤها، وزُيِّنت على عجل من أجل استقبال العروسين!...
وأحضرت بعد أيام قليلة، الحصائر والبطانيات والوسائد ومصابيح الكيروزين، وقناديل الكاربيل (الكانكيات)، من أغلب الدور المجاورة، وبسطت الأفرشة على طول الساحة وعرضها؛ وتوافد الرجال والنساء والأطفال، بل رحَلَت أسر بكاملها، تتبعها كلابها من كل الدشور القريبة، واصطحب بعضهم كبشا أو عجلا هدية لأصحاب العرس؛ إذ لم يكن الناس في حاجة إلى دعوة اسمية، فهم يعتبرون التخلف عن مناسبة كهذه إجحافا في حق أصحاب العرس؛ علاوة على أن أيام الحفلات فرص نادرة للفرح والابتهاج وتَصَيُّد الأخبار، لا ينبغي تفويتها بحال!...
وكان والدي كريما كعادته، فعمد إلى ذبح كبشين إضافيين اشتراهما من عند إسماعيل المصمودي، مساهمة منه في الحفل، وقال وهو يفتل شاربيه، ويرمق والدتي التي كانت تتابع فعلته بنظرات تنم عن قلة ارتياح:
- "لا أرضى أن يقول أهل أنـﯕاد كلاما لا يليق ببني خالد!"
فزمّت والدتي شفتيها، تعبيرا عن استهزاء مكتوم، وشنفت إليه بنظرة ثم استدارت لتتمتم بصوت خفيض:
- "ايتونشك ...كيتك في عقلك ...ومن هم بنو خالد في ملك الله؟!"
ومدّّت الموائد ذوات الأرجل القصار، عليها قصعات الكسكس، تعلو قممه قطع شهية من لحم الغنم، تفترش الحمص والزبيب. ثم أحضرت "الصواني" والأباريق والكؤوس، وانبرى لتحضير الشاي رجال مشهود لهم بالتفوق في إعداده... ثم سخنت الدفوف على النار لتجود بأحسن ما فيها من إيقاع، واصطفت النساء ينقرن عليها ويغنين زجلا موزونا يَتَوَزَّعْنَه أشطارا... فاستثيرت حماسة الرجال، فهبوا قبالتهن في صف ينقرون على الدفوف أو على ما وقعت عليه اليد من أوان معدنية... يغنون ويرقصون، في استعراض ظاهر لقوة الصوت ومهارة الإيقاع ودقة الحركة !...
كان الرجال يرفعون أصواتهم مرددين فاتحة النغم: "وها شوفي...شوفي ما جْرى لي عْلى ملـﯕاك " " " " " " "
وتردد النساء نفس الترنيمة بصوت نسوي رخيم...
فتزداد حماسة الرجال فيرفعون أصواتهم أكثر قليلا مرجعين النغم مرات ، قبل أن يتقدموا مُعْسِلين على قدم و نصف دون أن تكف أيديهم على النقر؛ ومن أعوزه شيء ينقر عليه، استعاض عنه بعصا يلوح بها، لتساعده على ضبط حركات الرقص... فيتقدمون وهم يعرجون حتى إذا اقتربوا من صف النساء، خبطوا الأرض بأقدامهم خبطات مضبوطة على لطم الدفوف... ثم يتراجعون القهقرى مترنمين، ليعيدوا الكرّة بقول آخر، يستهلُّه أمهرُهم أو أسرعُهم ارتجالا ليتقدموا من أجل إنجاز شوط جديد!...
"ها... ضوي يا الـﯕمرا ...ضوي عْلى دار الزين.
ضوي يا الـﯕمرا.. " " "
أما الأطفال الذين كان يمنعهم الخجلُ من ولوجِ صف الرجال، فكانوا "يُحَنْقِزون" في الظلام على صدى الإيقاع مقلدين الكبار... بعيدا عن أضواء المصابيح !
كان أخي سليمان أسير اللحظة، مأخوذا بسحر النغم يرتجف بتلقائية وسط الصف، وكان عاشور يبدو أكثر من سنه، وهو يرتدي "فوقية" ويعتمر عمامة، ويلوح بعصا إلى جانب الرجال... يهتز مثلهم في نشوة غامرة لا تقيم وزنا لنظرات بعض الشيوخ المستنكرة تبرُّما بالخروج عن التقاليد، فأن يرقص شاب في عرس أخته، عيب عندهم كبير! بل من العيب أن يبدي أهل الفتاة من الرجال فرحتهم في ليلة عرسها...و إن بعضهم –إخلاصا منهم للتقاليد في مثل هذه المناسبات- ليعترضون سبيل أهل العريس بعصيهم متوعدين، فلا يفتكُّون العروس منهم إلا بعد مشقة، متوسلين بدفع إتاوة تعيد الاعتبار لرجولتهم وشرفهم المهدد بالاغتصاب! أما أن يفرح رجال الفتاة ويرقصوا بتلقائية، فذلك أمر مرادف في فهمهم للقبول الطوعي بهتك العرض!...
وإنك لتعجب كيف أن الناس، وهم يحيون أيامهم العادية في الدوار، يحتشمون من ذكر أبسط الكلمات التي تنم عن شيء من عورة الجسد، ويعتبرون ذلك خدشا للحياء؛ أما الزوجة فلا تنادى باسمها، تحرّجاً، فإذا ذكر الواحد منهم لفظ المرأة وهو يحدثك أتبعه تَوًّا بعبارة حاشاك؛ ولكنهم في مثل هذه المناسبات ـ إذا استخفَّهم الطرب- يتحللون من الممنوع، ويتغنون بما اختفى من جسد الأنثى في غير ما حرج !...
قضى أهل الدوار ليلة العرس في فرحة ومرح، وانصرف الرجال قُبَيْل الفجر، أما النساء فأبين أن يمضين حتى يأخذن خبرا بما حصل في غرفة العروس، وراء "الحجبة"، فبقين حتى خرجت عليهن "صفية" (أم الباتول) متبوعة بنفر من الفتيات، وطافت تلوِّح بقميص أبيض ملطخ بدم أحمر قان... وهن يقابلنها بزغاريد متكررة، تحية إكبار منهن للشرف المصون!
وأقام العروسان في غرفة الزفاف أيّاما، ريثما تدبَّر إدريس بن رحال أمره من أجل الرحيل للإقامة في مدينة وجدة، فلم يعد يزور الضيعة إلا قليلا....
******
أصبح "قويدر" ولد حبيبة منذ زفاف الباتول، عصبي المزاج ولا يتردد في شتم بن رحال غيابيا، الأمر الذي كان سببا في شجاره مع عاشور عدّة مرات.
كنا جميعا نلاحظ أن اعتداد ولد حبيبة بنفسه، منذ أن أصيب على الحدود، أصبح مبالغا فيه، إلى الدرجة التي تبعث على الضيق؛ ولكنْ ، لا أحدَ كان يفهم السبب في تحامله على إدريس بغير مناسبة، حتى صدرت منه عبارات فهمنا منها أن المسكين كان غارقا في حب "الباتول" حبّا جنونيا، ما عرفت به هي إطلاقا...وأدركنا حينها لماذا كان يردّد، باستمرار، مدندنا بلكنته التي تقلب الراء ياءًً:
"مَاشْطَا ذاك السَّالَف ورَشَّاتو بالرْوايَحْ
وحِيثْ أنا وحداني حتى كلامي جاك طايح!... " وفهمنا أخيرا لماذا كان صديقنا يتعب نفسه في إرضاء عاشور ولا يغضبه أبدا!...
كان "قويدر" يبلغ بالكاد الحادية عشرة من عمره، ولم يكن بإمكان أحد أن ينتبه إلى ما يعانيه، فأحرى أن يحمله على محمل الجدّ!...
كان حبّ "قويدر" للباتول حبا طفوليا، عابرا ولاشك، ولكنه مطبوع بالعنف والعناد... ولم يستطع عاشور أن يصبر على تماديه في شتم زوج أخته، فنهره عدّة مرّات، ولكنه لم يزدد إلاّ غلوا، وبلغ به الغضب ذات لحظة أن تحامل على عاشور نفسه صراحة قائلا:
- ما عمَّينا(عمّرنا) شفنا شي ياجل( راجل) يشطح فعيس (فْعرس) أخته حتى شفناك أنت!...
وردَّ عليه عاشور قبل أن يتمها، بلكمة على أنفه أسالت دمه وهو يرغي:
- عاودها مّرة أخرى يا ولد الـفاعلة...!
وتدخلت أنا والعيد ولد رمضان من أجل فك الاشتباك بينهما، فصب قويدر غضبه علينا نحن أيضا، فانفعلت وأشهرت القطيعة معه قائلا:
-"حام...حام" مَنْ هْنا حَتَّى لََلْعام الجّاي !"
وتلك هي العبارة التي كنا نعلن بها القطيعة في حال الخصام !
"الأفيون و
الذاكرة"(تابع) الجزء 5
"الأفيون و الذاكرة" رواية / سيرة جماعية تؤرخ للعلاقة بين الشعبين المغربي و الجزائري خلال سنوات الخمسينيات وبداية الستينيات ، ثم ما تلا تلك الفترة من تحولات ، انتهت إلى قطيعة غير مفهومة الأسباب. طبعت الرواية و نشرت في مدينة وجدة و بعض المدن المغربية وبمناسبة اقتراب الذكرى الأليمة السادسة و الثلاثين لطرد آلاف المغاربة من القطر الجزائري الشقيق ، أستأذن المشرفين على هذه الصفحة في نشر هذه الرواية على حلقات، وسيكون التفاوت بين الحلقات المنشورة في هذا الموقع و غيره من المواقع لصالح أولئك الذين لم يتسنَّ لهم متابعة الرواية من أولها.
رحيل المتوحد
أحيانا يجتبي القدر أحداثه التي لا مفر منها وينفذها بما يستجيب لِلَهْو الناس وعبثهم وكلامهم الذي يلقونه في غير ما حذر... فتضرب سهامه جادة صائبة، حيث تطيش عبارتهم وسوء فألهم عفوا... وربما كان هذا التلازم بين القدر وعبث الناس وكلامهم المنفلت عن رقابة الوعي، وراء ظاهرة التشاؤم والتطير الشائع عندهم من بعض العبارات أو بعض الممارسات !
كان مبتدأ شهر أكتوبر من سنة 1958، قد شهد أمطارا غزيرة...ثم انقلب الجو بعدها فجأة، فارتفعت درجة الحرارة بشكل يذكر بأيام يوليو...وكنا استأنفنا السنة الدراسية متخاصمين مع قويدر ولد حبيبة، فكنا نغدو إلى المدرسة ونعود منها، كلٌّ على جانبٍ من الطريق... عاشور والعيد وعبد الرحمن وأنا في جانب وقويدر في الجانب الآخر...ولكن قويدر جاءني ذات أحد زوالا ليطلب منّي المسامحة ويرجو منّي أن أرافقه للعوم في بِرْكة هرّاندو بوادي بونعيم وقال:
- سامحني...لم أكن أدري ما أفعل ذلك اليوم...
وأعلمني أنه طلب المسامحة من العيد ولد رمضان أيضا،...غير أنه أكد لي:
- "أما عاشور فلن أصالحه، حتى أُدفَن تحت التراب !"
شعرت للحظات أني هزمته، وأن "حامي" غلب "حامَهُ" فطاب خاطري وأنهيت القطيعة معه، آملا أن تكون علاقتي معه طريقا إلى المصالحة بينه وبين عاشور، ووعدته أن ألتحق بهم للسباحة، حالما أعود من قضاء بعض الأغراض من دكان سعيد البقال بدوار أولاد عياد؛ فقد كان والدي لا يحتمل قضاء بعض يوم بدون شاي، لذلك فإنه ما إن تفقد مؤونة الشاي والسكر، فوجدها تشرف على النفاد، حتى أصدر إليّ الأمر بالإسراع في طلبها من بقال الحدود على بعد بضعة كيلومترات، ووَضَع رهن إشارتي دراجة "طيرو" ، الأثيرة عنده ، التي لا يجود بها إلا إذا دعاه من الشاي داع !
ورغم قيظ الزوال، فإنّي ما كنت لأُضَيِّع الفرصة للتَّمَتُّع بركوب الدراجة مدة قد تزيد عن الساعة، في أبسط تقدير!
كانت الدراجة أعلى مما تطيقه قامتي، لذلك كنت أجد صعوبة في أن تصل قدماي كلتاهما إلى الدواسة، فأضطر إلى ترك السرج، لأميل ذات اليمين وذات الشمال متتبعا ظلي، وأنا أتمطط مثل سحلية داكنة على جذع حطب !
لم أرد أن أختصر طريق الذهاب فتعمدت إطالته لأتمتع بالدراجة أكثر ولكني عند العودة، وكان الإجهاد قد نال منّي، فضَّلْت أن أسلك طريقاً مختصرا يمر بالقرب من دشر إسماعيل المصمودي، غير بعيد عن بركة هرّاندو، الشيء الذي اضطرَّني إلى التَّرجُّل لقطع وادي بونعيم، فلما أشرفت على الضفة المقابلة، راعني أن رأيت جمعا من الناس على شفا الجرف الذي يطل على البِرْكة، يشيرون إلى أحد السباحين، وشاهدت بَنْعْمَرو ، خال قويدر، يجري في اتجاههم في فتنة لا تخطئها العين، وقد انصرمت عمامته وامتدت ذؤابتها وراءه أمتارا ...وهو يحاول جاهدا أن يعيد لفَّها دون أن تتوقف رجلاه النحيلتان المتعبتان عن السعي الحثيث ؛ فألقيتُ الدراجة وأسرعتُ أذرَعُ حقول الشوفان جرياً...
ووقف بَنْعْمَرو لاهثا برهة، ثم ما فتئت رجلاه أن عجزتا عن حمله فانهار، فيما بقيت عيناه تتطلعان إلى الغطَّاسين آملا في حدوث المعجزة ! كان عدد الغطاسين ثلاثة، تبيَّنْت فيهم أخي سليمان الذي قيل لي إنه بدأ التنقيب منذ الوهلة الأولى، قبل أن يردفه راعي إسماعيل الجديد، ثم انتهى الخبر إلى عبد القادر بن جراد فالتحق بهما...
غطس أحدهم مرة أخرى ومكث تحت الماء قليلا، ثم أخرج رأسه ليتزود نفسا من الهواء...فباغته أحدهم يسأل:
- هل وجدته؟
فهز الفتى رأسه بالنفي ثم عاود الغطس وغاب تحت الماء لحظات...أتْلََع رأسه بعدها، ليخبر بأنه لا يجد الغريق !
كان الخبر قد انتشر في الدوار على جناح الشؤم من دار لدار، فتقاطر الناس إلى المكان، وجاءت حبيبة حاسرة الرأس حافية القدمين، واقتعدت الأرض مولولة، تضرب صدرا انكشف عن ثديين أعجفين ذابلين، يَعْلَقان بالعظام...وقد حفَّت بها نسوة يحاولن مواساتها فلا يجدن من العبارات ما يناسب فداحة الخطب، إلا كلمات رثة بالية تتكرر مع نزول المصائب كلَّما رمت و حيثما حلّت وأيّان وقعت..."الله مْعاك يا مسكينة...البقية في رأسك...الله يْبَدَّل محبتو بالصبر..."
كانت محاولات الغطاسين الفاشلة، قد استنفذت منهم وقتا وجهداً ملحوظاً، فتذكر راعي إسماعيل المصمودي غنمه وخشي أن تكون ذاعت في مغروسات الضيعة، فخرج على عجل ليرتدي ثيابه ويمضي مهرولا نحوها...بينما كان التعب قد نال من سليمان فدلف إلى الشط ليتمدد على ظهره ناشرا ساقيه إلى أقصى مدى، ولم يبق في الماء غير عبد القادر بن جراد...
هنالك ، وقدماه لا تزالان عاجزتين عن حمله، زحف بنعمرو يجرجر عجيزته الضامرة على الأرض، ليقترب من سليمان، ويضع يدا مرتعشة على ساقه راجيا إياه بعينين دامعتين أن يستمر في البحث...لكن عاشور الذي وصل للتو، كان قد تجرد من ثيابه وانْسلَّ من بين الحشد وألقى بنفسه في الماء ليلتحق ببن جراد، فغابا عن الأنظار لحظات، عادا بعدها ليخبرا بأن إحدى قدمي قويدر تعْلَقُ بين صخرتين، في تجويفٍ أسفل الجرف حيث دفعته المياه، تحت أقدام الحشد تماما !...
حينئذ عاد سليمان إلى الِبرْكة، وجاءوا، بعد هنيهة، يدفعون جثمان قويدر طافيا على الماء نحو الشطّ ، فرفعه الرجال مكَبِّرين مهلِّلين: "الله أكبر...لا إله إلا الله، سبحانه لا يدوم إلا وجهه"!
لم يكن لبَنْعْمَرو خلفٌ ذكر من زوجته الأولى، فتزوج ثانية ولكنه لم يرزق منها أيضا؛ فرأى في قويدر، ابن أخته، ولدا يعوِّض حاجته...غير أنه أيقن الآن أن البليَّة قد سددت تلقاء آله وأطلقت سهمها فأصابت كبد شقيقته، وذهبت بأمله في الخلف؛ فانهار منتحبا كطفل صغير...بينما ندّت من حبيبة زغرودة حارّة وجدت طريقها بين الدموع، فتعالت زغاريد النساء متجاوبة في ما يشبه الطنينَ المنبعث من قفير النحل!
وليست زغاريد النساء لحظة المأساة عندنا، إلا شكلا من التعالي والتجاوز الخلّاق، وما هي إلا تعبير عن التجلد والصبر والرِّضى بقضاء الله؛ والإيمان بأن الفقيد قد زُفّ للحور في جنان الرحمان!
دفن قويدر ولد حبيبة في المقبرة المجاورة لوادي بونعيم على تخوم الضيعة... وكان حزن عاشور شديدا، إذ أيقن، كما أيقنّا كلُّنا أن المرحوم كان أبرَّنا جميعاً بالقطيعة التي أعلنها بعضُنا في وجه البعض، تحت حمّى الغضب ذات خصام، فقد كانت قطيعة أبدية النزوع، لا سبيل إلى الرجوع عنها!
"الأفيون و الذاكرة" رواية / سيرة جماعية تؤرخ للعلاقة بين الشعبين المغربي و الجزائري خلال سنوات الخمسينيات وبداية الستينيات ، ثم ما تلا تلك الفترة من تحولات ، انتهت إلى قطيعة غير مفهومة الأسباب. طبعت الرواية و نشرت في مدينة وجدة و بعض المدن المغربية وبمناسبة اقتراب الذكرى الأليمة السادسة و الثلاثين لطرد آلاف المغاربة من القطر الجزائري الشقيق ، أستأذن المشرفين على هذه الصفحة في نشر هذه الرواية على حلقات، وسيكون التفاوت بين الحلقات المنشورة في هذا الموقع و غيره من المواقع لصالح أولئك الذين لم يتسنَّ لهم متابعة الرواية من أولها.
رحيل المتوحد
أحيانا يجتبي القدر أحداثه التي لا مفر منها وينفذها بما يستجيب لِلَهْو الناس وعبثهم وكلامهم الذي يلقونه في غير ما حذر... فتضرب سهامه جادة صائبة، حيث تطيش عبارتهم وسوء فألهم عفوا... وربما كان هذا التلازم بين القدر وعبث الناس وكلامهم المنفلت عن رقابة الوعي، وراء ظاهرة التشاؤم والتطير الشائع عندهم من بعض العبارات أو بعض الممارسات !
كان مبتدأ شهر أكتوبر من سنة 1958، قد شهد أمطارا غزيرة...ثم انقلب الجو بعدها فجأة، فارتفعت درجة الحرارة بشكل يذكر بأيام يوليو...وكنا استأنفنا السنة الدراسية متخاصمين مع قويدر ولد حبيبة، فكنا نغدو إلى المدرسة ونعود منها، كلٌّ على جانبٍ من الطريق... عاشور والعيد وعبد الرحمن وأنا في جانب وقويدر في الجانب الآخر...ولكن قويدر جاءني ذات أحد زوالا ليطلب منّي المسامحة ويرجو منّي أن أرافقه للعوم في بِرْكة هرّاندو بوادي بونعيم وقال:
- سامحني...لم أكن أدري ما أفعل ذلك اليوم...
وأعلمني أنه طلب المسامحة من العيد ولد رمضان أيضا،...غير أنه أكد لي:
- "أما عاشور فلن أصالحه، حتى أُدفَن تحت التراب !"
شعرت للحظات أني هزمته، وأن "حامي" غلب "حامَهُ" فطاب خاطري وأنهيت القطيعة معه، آملا أن تكون علاقتي معه طريقا إلى المصالحة بينه وبين عاشور، ووعدته أن ألتحق بهم للسباحة، حالما أعود من قضاء بعض الأغراض من دكان سعيد البقال بدوار أولاد عياد؛ فقد كان والدي لا يحتمل قضاء بعض يوم بدون شاي، لذلك فإنه ما إن تفقد مؤونة الشاي والسكر، فوجدها تشرف على النفاد، حتى أصدر إليّ الأمر بالإسراع في طلبها من بقال الحدود على بعد بضعة كيلومترات، ووَضَع رهن إشارتي دراجة "طيرو" ، الأثيرة عنده ، التي لا يجود بها إلا إذا دعاه من الشاي داع !
ورغم قيظ الزوال، فإنّي ما كنت لأُضَيِّع الفرصة للتَّمَتُّع بركوب الدراجة مدة قد تزيد عن الساعة، في أبسط تقدير!
كانت الدراجة أعلى مما تطيقه قامتي، لذلك كنت أجد صعوبة في أن تصل قدماي كلتاهما إلى الدواسة، فأضطر إلى ترك السرج، لأميل ذات اليمين وذات الشمال متتبعا ظلي، وأنا أتمطط مثل سحلية داكنة على جذع حطب !
لم أرد أن أختصر طريق الذهاب فتعمدت إطالته لأتمتع بالدراجة أكثر ولكني عند العودة، وكان الإجهاد قد نال منّي، فضَّلْت أن أسلك طريقاً مختصرا يمر بالقرب من دشر إسماعيل المصمودي، غير بعيد عن بركة هرّاندو، الشيء الذي اضطرَّني إلى التَّرجُّل لقطع وادي بونعيم، فلما أشرفت على الضفة المقابلة، راعني أن رأيت جمعا من الناس على شفا الجرف الذي يطل على البِرْكة، يشيرون إلى أحد السباحين، وشاهدت بَنْعْمَرو ، خال قويدر، يجري في اتجاههم في فتنة لا تخطئها العين، وقد انصرمت عمامته وامتدت ذؤابتها وراءه أمتارا ...وهو يحاول جاهدا أن يعيد لفَّها دون أن تتوقف رجلاه النحيلتان المتعبتان عن السعي الحثيث ؛ فألقيتُ الدراجة وأسرعتُ أذرَعُ حقول الشوفان جرياً...
ووقف بَنْعْمَرو لاهثا برهة، ثم ما فتئت رجلاه أن عجزتا عن حمله فانهار، فيما بقيت عيناه تتطلعان إلى الغطَّاسين آملا في حدوث المعجزة ! كان عدد الغطاسين ثلاثة، تبيَّنْت فيهم أخي سليمان الذي قيل لي إنه بدأ التنقيب منذ الوهلة الأولى، قبل أن يردفه راعي إسماعيل الجديد، ثم انتهى الخبر إلى عبد القادر بن جراد فالتحق بهما...
غطس أحدهم مرة أخرى ومكث تحت الماء قليلا، ثم أخرج رأسه ليتزود نفسا من الهواء...فباغته أحدهم يسأل:
- هل وجدته؟
فهز الفتى رأسه بالنفي ثم عاود الغطس وغاب تحت الماء لحظات...أتْلََع رأسه بعدها، ليخبر بأنه لا يجد الغريق !
كان الخبر قد انتشر في الدوار على جناح الشؤم من دار لدار، فتقاطر الناس إلى المكان، وجاءت حبيبة حاسرة الرأس حافية القدمين، واقتعدت الأرض مولولة، تضرب صدرا انكشف عن ثديين أعجفين ذابلين، يَعْلَقان بالعظام...وقد حفَّت بها نسوة يحاولن مواساتها فلا يجدن من العبارات ما يناسب فداحة الخطب، إلا كلمات رثة بالية تتكرر مع نزول المصائب كلَّما رمت و حيثما حلّت وأيّان وقعت..."الله مْعاك يا مسكينة...البقية في رأسك...الله يْبَدَّل محبتو بالصبر..."
كانت محاولات الغطاسين الفاشلة، قد استنفذت منهم وقتا وجهداً ملحوظاً، فتذكر راعي إسماعيل المصمودي غنمه وخشي أن تكون ذاعت في مغروسات الضيعة، فخرج على عجل ليرتدي ثيابه ويمضي مهرولا نحوها...بينما كان التعب قد نال من سليمان فدلف إلى الشط ليتمدد على ظهره ناشرا ساقيه إلى أقصى مدى، ولم يبق في الماء غير عبد القادر بن جراد...
هنالك ، وقدماه لا تزالان عاجزتين عن حمله، زحف بنعمرو يجرجر عجيزته الضامرة على الأرض، ليقترب من سليمان، ويضع يدا مرتعشة على ساقه راجيا إياه بعينين دامعتين أن يستمر في البحث...لكن عاشور الذي وصل للتو، كان قد تجرد من ثيابه وانْسلَّ من بين الحشد وألقى بنفسه في الماء ليلتحق ببن جراد، فغابا عن الأنظار لحظات، عادا بعدها ليخبرا بأن إحدى قدمي قويدر تعْلَقُ بين صخرتين، في تجويفٍ أسفل الجرف حيث دفعته المياه، تحت أقدام الحشد تماما !...
حينئذ عاد سليمان إلى الِبرْكة، وجاءوا، بعد هنيهة، يدفعون جثمان قويدر طافيا على الماء نحو الشطّ ، فرفعه الرجال مكَبِّرين مهلِّلين: "الله أكبر...لا إله إلا الله، سبحانه لا يدوم إلا وجهه"!
لم يكن لبَنْعْمَرو خلفٌ ذكر من زوجته الأولى، فتزوج ثانية ولكنه لم يرزق منها أيضا؛ فرأى في قويدر، ابن أخته، ولدا يعوِّض حاجته...غير أنه أيقن الآن أن البليَّة قد سددت تلقاء آله وأطلقت سهمها فأصابت كبد شقيقته، وذهبت بأمله في الخلف؛ فانهار منتحبا كطفل صغير...بينما ندّت من حبيبة زغرودة حارّة وجدت طريقها بين الدموع، فتعالت زغاريد النساء متجاوبة في ما يشبه الطنينَ المنبعث من قفير النحل!
وليست زغاريد النساء لحظة المأساة عندنا، إلا شكلا من التعالي والتجاوز الخلّاق، وما هي إلا تعبير عن التجلد والصبر والرِّضى بقضاء الله؛ والإيمان بأن الفقيد قد زُفّ للحور في جنان الرحمان!
دفن قويدر ولد حبيبة في المقبرة المجاورة لوادي بونعيم على تخوم الضيعة... وكان حزن عاشور شديدا، إذ أيقن، كما أيقنّا كلُّنا أن المرحوم كان أبرَّنا جميعاً بالقطيعة التي أعلنها بعضُنا في وجه البعض، تحت حمّى الغضب ذات خصام، فقد كانت قطيعة أبدية النزوع، لا سبيل إلى الرجوع عنها!