الرؤية
وجمالية الإيقاع في "حاءات متمردة"[1]
للشاعر عبد السلام مصباح
الطيب هلو
على سبيل التقديم:
يبني
الشاعر المغربي عبد السلام مصباح، على امتداد أعماله الإبداعية وترجماته الشعرية،
أفقا شعريا خاصا ومتميزا، يتسم بأناقة اللغة الشعرية التي لا يخطئها القارئ
المتذوق، وينماز بإيقاعه السلس الجميل، سواء في انتقاء الأوزان أو في اختيار
القوافي أو في ارتياد مجاهل المكونات الإيقاعية الداخلية التي تزيد النص بهاء وتمنحه
جمالا.
أما ديوان "حاءات متمردة" الذي نحاول الاقتراب
من مداخله فيعد تجربة سامقة في الشعر، باهرة في الصنعة الشعرية. تؤكد تواشجها مع
تجربة الشاعر في الحياة ورؤيته الممتدة في أفق ارتياد مكونات القصيدة التفعيلية، بما
تمنحه من فخامة إيقاعية مع تجديدها باستمرار، بامتطاء مكونات بلاغة الإيقاع
المؤسسة على عناصر منها: التوازي والتكرار والترصيع والجناس وغيرها، وصهرها بأناقة
اللغة الشعرية الحالمة، والراكضة وراء الخيال المبهج والصور المبتكرة، لغة تميل
إلى تعبير الرومانسيين، لتنزاح عنها في سبيل خلق مثال جمالي داخل القصيدة يعادل
جمال الحلم الذي يتخذ الشاعر منه مجالا واسعا للرؤيا.
1 ـ الرؤية الشعرية:
اختار الشاعر المغربي عبد السلام مصباح، في ديوانه "حاءات
متمردة"[2] الذي تتناسل فيه الصور
الشعرية لترسم ملحمة، يتشابك فيها الحزن بالحلم، والحرف بالحب، وينعكس داخلها الألم
في مرآة الأمل، أن يتخذ لتجربته قطبا تدور عليه كافة النصوص، حتى كأنها تنويعات
على مقام واحد، مقام الحاء؛ حيث الحب والحلم والحزن والحرف والحرية تطوف حول هذا
القطب، ومن خلال طوافها المستميت ترسم دوائر ذات شقين: شق فردي ذاتي تتراءى على
صفحته الكينونة، وشق جماعي تنعكس على مرآته هموم الأرض والكون، وهموم الوطن
والأمة، والهم الحضاري العام؛ مما يعمق الانكسار الذاتي المندمج بأحلام البسطاء.
فمنذ قصيدته الأولى "عن الحلم والفرح"، يبدأ الشاعر العزف على هذه
المقامات، والإبحار بعيدا في هذه المحيطات الشعرية، راسما صورة الحلم الغائب،
والفرح المؤجل والحب المهزوم:
أبحر الطير
بعيدا
غاب خلف الريح
في جفنيه
صوت الحلم
غنوه.
فرح
يولد
ينمو
يتناسل
وفي عمق هذا الانفراج البادي، يفاجئنا المقام الشعري بالمفارقة القائدة إلى
الانكسار، حيث "الشمس تمحو كل ظل"(ص8) وحيث عاد الطير، "الآمل في
الأنجم الحبلى وأثمار السحب، بخيبة الأمل حاملا تحت جناحيه الألم
وبنى عشه على أشواك ورده "
بهذه الصورة الحزينة يبدأ الشاعر ملحمة الحزن حيث يعترف قائلا:
طرت
حتى ملني
بحر الزمن
طرت
حتى عافني
درب السفر
أزهر الحزن
بأعماقي
شجر
فالاستعارات الكثيفة ترفع سقف الألم عاليا، وتعمق هذا الإحساس بالحزن، الذي
لا يأتي جاهزا، وإنما ينمو داخل الذات وئيدا ومؤلما، وغير منتَبَه لنموه، لينفتح
النص على نهاية فيها أمل قادم، ومتمرد عبر استعمال لفظة (رغم) التي وُظِّفَتْ
لتكريس التحدي، والتبشير بالأمل، حيث يجد الحَبَّ والمياه والدفء في كل الفصول.
ويستمر الشاعر في عزف لحن الحلم في القصيدة الثانية التي تتخذ "حلم" لها
عنوانا، بعيدا عن أي تعريف أو تحديد ـ من خلال استعمال النكرة ـ والقائم على
الاستمرارية، فيبدأ النص بالفعل المضارع (أحلم) بعد أن كان النص السابق قد بدأ
بالفعل الماضي (أبحَرَ الطير)؛ مما يرسم ملمحا من ملامح الانفراج. إن الأحلام تأتي
بامرأة من أقصى اليأس المتراكم
من أقبية الحزن
ومن أكوام
القهر
محملة
بالصبوات
وبالعشق
لكن أحلام الشاعر مشروطة، مرسومة وفق مقاس الانتماء لأحلام البسطاء.
فالمرأة المطلوبة متفردة، لا تشبهها واحدة في السرب، ولها قدرة على محو أزمنة
الإحباط وأتربة الخيبة عن الشَّعر الأبيض، وتقبل مقاسمة عيش البسطاء وتعب الرحلة
في صحراء الحرف، وبين شعاب الهم اليومي، وتستطيع أن توقد نار الحب، وتوقظ الأحلام
المتأججة، وتسقي الإنسان من نبع الحب كؤوس الأمل. هذه المرأة /المثال التي في
وجودها قدرة عجيبة على رسم حدود جديدة لعالم مثالي سعيد، على المستوى الفردي (ما
أسعدني لو أراك من شرفة الحلم تطلين...) وعلى المستوى الحضاري؛ إذ يرسمان (خريطة
لعالم بلا حدود، بلا نقط تفتيش)، وهو عالم صغير لا يتسع إلا للشاعر والمرأة
وثالثهما الحب، وهنا تمتزج حاء الحلم بحاء الحب، خروجا من حاء الحزن، حيث تتمرد
الأولى على المواضعات الاجتماعية والطبيعة بانغراس الواحد في الآخر، وتتمرد
الثانية على حدود الواقع، إذ الحياة بلا خوف ولا حزن، وبلا أقنعة. إن حاء الحب
وحاء الحلم تتمردان عبر خيال الشاعر المولد لانزياحات لافتة، حيث لا يكاد يخلو سطر
من صورة شعرية رائقة، ترفع مستوى التوتر إلى أعلى درجاته في رومانسية حالمة،
متماهية مع هموم الواقع؛ مما يجعل الرغبة في الغياب أمرا ملحا لتحقيق النسيان
وكتابة أبجدياته:
ننسى المكان
وننسى الزمن
وفي خفقة
نبحر
نبحر
في زورق حلم
تعالج نصوص عبد السلام مصباح، إذن، جوهر الخراب الإنساني، وإن كان ذلك يتخذ
عنده تمظهرات عدة، منها الهم اليومي والحب الممزق، والذي استعمله مرارا كحرفين
منفصلين (حاء ـ باء)، وإن كانت هذه التمظهرات تقوم بمهمة الرصد والتفسير لهذا
الخراب؛ مما يجعله يتجاوز الهم المؤقت العابر ليصبح ذا جذور عميقة في كيان الشاعر.
وحتى لا نتيه مع الحاءات المتمردة،
نتوقف عند تمظهر حاء واحدة، هي حاء الحلم لاطّرادها في كل النصوص وبشكل لافت حتى
لا تكاد تخلو صفحة من هذا اللفظ، مما يحوله إلى بؤرة ضوئية أساسية، عنها تتفرع
باقي الدلالات، فهو تارة يملك صوتا، وله قدرة على التعبير، ويشكل مخرجا من مأزق
الذات الحبيسة، وفي أحيان أخرى يتجلى أمنية عابرة يطلبها الشاعر (ص42).
إن الحلم يتخذ، إذن، تجليات
عدة، يصعب رصدها جميعا، لكن يمكن الكشف عن بعضها. فالحلم، في نصوص عبد السلام
مصباح، متأجج مندفع (أحلم باللحظات الصّخابة) (ص88) يملك صوتا (صوت الحلم)، ومدويا
فهو (متصاهل في رحم الكلمات)، وهو نار متأججة تستيقظ في أعماق الشاعر أو بيت له
شرفة تمنح فرصة التأمل في الآفاق الواسعة والأرجاء الرحبة (من شرفة الحلم تطلين)،
وهو أحيانا زورق يمكِّن من تجاوز المسافات والإبحار بعيدا، كما يرتبط بالجنون
والعشق (تخصب نيران العشق معمدة بجنون الحلم ). وكي يعمق الشاعر استعارات الاندفاع
للحلم يعطي نموذج الحلم السلبي الذي يرفضه:
تخلع عنها
ثوب الأزمنة المنخورة
والحلم الناعم
والهدرة.
هذا التصور لا يجعل من الحلم هروبا سلبيا، وإنما يجعله امتدادا للفعالية
والإنجاز (صوب شعاب الحلم الفعال )(ص 95 )، الذي يمنحه الحرف أحيانا، ويمنحه الجرح
الذي (يقطر/ يرسم للمستضعف /حلما / وعدا/ ونبوءه) (ص119) كما أن الأحلام مزهرة،
طافحة بالخصب:
بحثوا
عن أنفاسي الحمراء
عن أحلامي الخضراء
عن لغة الحب
وعن سبع سنبلات خضر
تتدثر بالحلم.
وارتباط الحرف بالحلم وثيق في نصوص
الديوان، حيث يعبر الشاعر عن هذا التلازم بقوله:
يشعل للحرف الشارد
حلمي (ص 121)
وقوله:
الحلم المتوهج
والحرف (ص83 )
وارتباط الحب بالحلم، حيث (الحب أخضر)(ص126)، وارتباط الحلم بالمرأة:
أخذوا قلبي
وصورة من أهوى
من تعشقني
من أعطتني الحلم ربيعا
وسقتني الحرف
ينابيعا (ص125 )
من هنا، يبدو التلازم الوثيق بين الحاءات الأربع؛ فكل واحدة تفضي إلى
الأخرى، وتتجمع كلها لتعانق أحلام البسطاء وتروي عطش الأرض العارية التي يشتهي
الشاعر معانقتها في نص "توقيعات على سنفونية الخصوبة"، والذي هو قمة
التوحد الصوفي بالمعشوقة الأرض، والتي يفاجئ القارئ حين يعلنها في آخر النص:
ألثم كل تفاصيلك
حرفا
حرفا
ألف
راء
ضاء.
مما يجعل رؤية الشاعر حالمة بامتياز، تتجاوز الحدود المرسومة للحلم
الرومانسي، لتقدم صورة للثورية الحالمة عبر الكشف عن هموم الشاعر الكونية، وارتباطه
بأحلام البسطاء والمستضعفين، فالمرأة تتجاوز الحدود الجغرافية للجسد، لتصبح معادلا
للأرض، والشعر يتجاوز كونه تعبيرا عن هم متقوقع على الذات، بل ينتقل للتأمل في
قضايا أكبر ومشاكل أعمق. فإذا كان معجم الحلم يستحوذ على الديوان فإن معجم الهم
اليومي والمعيش يحضر موازيا له، وإن كان حضوره أقل. والمرأة الحاضرة ـ كمعشوقة ـ
في جل النصوص لا تتعدى كونها الأرض، كما في قصيدة "توقيعات".
إن "حاءات متمردة" نص واحد، وملحمة
للحلم، ترفعه من مجرد تعبير نفسي يحتاج إلى تأويل، إلى أسطورة متكاملة، تطرح حلا
جوهريا لمعالجة مشاكل الذات والعالم.
2 ـ التكثيف الموسيقي:
يحفل ديوان "حاءات متمردة" بلغة شعرية سامقة، تمنح الإدهاش بفضل
ما يتناسل داخلها من صور تنزاح عن المألوف وتخالف المعتاد، لكني ارتأيت أن ألامس
جمالية الإيقاع لأنه يمنح للخطاب الشعري سلطته
داخل الديوان، ويجعله خطابا منظما بفعل ما يتأسس عليه من تكرار التفاعيل والأصوات
والصيغ الصرفية والوحدات الدلالية، وما يمنحه ذلك من أثر نفسي وانطباع جمالي خاص يدركه
المتلقي وإن كان يتعذر تقنينه بنفس درجة تقنين قواعده.
إن جمالية التكثيف الموسيقي تتجلى من خلال تمظهرات
عديدة تؤسس الإيقاع عند عبد السلام مصباح، إذ يقوم التشكيل الشعري عنده على عناصر
متعددة أهمها:
أ ـ الإيقاعات النغمية
إن الحديث عن الإيقاعات هو حديث عن الأوزان الشعرية في حلتها الجديدة وعن
خصائصها وتجلياتها المعاصرة ، ولعل تخصيصنا لها بصفة " النغمية " دليل
على صلتها الوثيقة بالصوت والاهتمام منا بما هو سمعي أكثر من الارتباط بالصورة
الخطية التي تمكن دراستها ضمن ما يسمى بالتشكيل البصري.
إن أيا منا حين يسمع أن ديوانا
يتكون من ستة عشر نصا، فإنه يتصور ـ لا محالة ـ وجود تنوع كبير للأنساق النغمية وإمكاناتها،
إلا أن هذا الديوان الممتد عبر126صفحة ، يفاجئنا بكونه لا يسخّر إلا بحورا ثلاثة،
كما أن قراءة الديوان تبيّن أن نصوصه نسجت على إيقاع واحد، سريع
ولاهث، يكثر من الحركات ـ على الرغم من قلة التنويع في البحور ـ فقد احتل الخبب 13 قصيدة، بمعدل
يقارب 82% في حين جاءت قصيدة واحدة
متنوعة التفاعيل تقترب من قصيدة النثر، مع قصيدة واحدة للرمل، وواحدة للهزج بمعدل
6% لكل واحدة منها، وقد احترم الشاعر الأوزان في صورته التفعيلية الصافية، فلم يتجاور داخل
النص الواحد أكثر من بحر. ومن أهم البحور التي لمحنا حضورها: الخبب والمتدارك حيث
يجمعهما النص الواحد أحيانا، وهذا الجمع ليس من بدع الشاعر، إذ لوحظت هذه الظاهرة
على القصيدة المغربية منذ السبعينيات، في قصائد محمد بنيس ومحمد بنطلحة وأحمد
بنميمون وعبد الله راجع وأحمد بلبداوي وعلال الحجام ومحمد الأشعري وحسن الأمراني ـ
كما كشفت عن ذلك رسالة الشاعر عبد الله راجع " القصيدة المغربية المعاصرة
بنية الشهادة والاستشهاد"ـ وهذا الإيقاع يتسم بالتنوع والخفة والسرعة وبغناه
وكثافته الموسيقية، و"لجوء الشاعر المغربي إلى المتدارك/ الخبب مبرر بغنى هذا
التشكل وتنوع وحداته الإيقاعية. ولكننا نرى أن لهذا التبرير ما يزكيه، فالإيقاع
الناتج عن تشعيث فاعلن والمسمى بضرب الناقوس أو قطر الميزاب يكاد ينطبق مع الدارجة
المغربية التي يغلب عليها الحرف الساكن، والمد في نهاية المفردة" ـ كما يقول
عبد الله راجع (ج1ص156) كما أن الشاعر يستعمل الهزج في قصيدته " ثلاثية الحرف
والبعث" ص 73 والرمل في قصيدة " عن الحلم والفرح" ص7
والرمل بحر "سهل، يسير، ذو نغمة واحدة
متكررة، ... وأقل ما يقال عنه إنه بحر بسيط النغم، مضطرد التفاعيل، منساب، طبلي
الموسيقى، ويصح لكل ما فيه تعداد للصفات، وما تلذذ بجرس الألفاظ، وسرد للأحداث في
نسق مستمر." ـ حسب ما يرى عبد الله الطيب في المرشد إلى فهم أشعار العرب
وصناعتها ـ وفي اختيار الشاعر لهذه الإيقاعات مناسبة للتعبير عن
رؤية الشاعر، فهي تستجيب لرهان الوحدة والتدفق وللرؤية العميقة التي، من أجل
تجليتها، خط قصائده.
ب ـ التعامل الخاص مع القافية:
إن الشاعر عبد السلام مصباح يشكل القوافي بحرية تامة،
فهو يجمع بين أنماط من القوافي، لكن النمط الذي يهيمن على نظام التقفية عنده هو القوافي المرسلة، ولعل أول ما ننطلق منه للحديث عن هذا
النمط من القوافي هو ربطه بالرأي القائل بضرورة الوزن والقافية بشكلهما الخطي دون
الاحتفاظ بحرف الروي، من هنا تصبح هذه القافية هي ما خلت من حرف الروي، وهي
"معروفة قبل مجيء الشعر الحديث فيما سمي بالشعر المرسل."[3] ونجد
من القائلين بهذا الرأي د.عز الدين إسماعيل الذي يرى أن الشعر " لم يكن
ليستغني عن القافية، ولكنه يستطيع أن يستغني عن الروي المتكرر في نهاية السطور،
ومن هنا استغنى الشاعر عن القافية بوضعها القديم ، لكنه ألزم نفسه مقابل ذلك بنوع من القافية المتحررة
تلك التي لا ترتبط بسابقاتها أو لاحقاتها إلا ارتباط انسجام وتآلف دون اشتراك ملزم
في حرف الروي، وبذلك صارت النهاية التي تنتهي عندها الدفعة الموسيقية الجزئية في
السطر الشعري هي القافية,"[4] وهذا
اللون من التقفية يجعل القصيدة تكاد تقترب من الشعر المنثور، إذ تتجلى هذه القافية
في تغييب حرف الروي في نهاية المقاطع، ففي قصيدة "عن الحلم والفرح" ندرك
أن الشاعر يبني نصه على مقطعين شعريين اعتمادا على التدوير العروضي، إذ تتوازن
الوقفة العروضية/ النظمية مع الوقفة الدلالية، وينتهي المقطعان باللفظتين
التاليتين (ظل ـ فصول) وهما قافيتان مختلفتان من حيث حروف القافية وبنائها، على
الرغم من التشابه في حرف الروي (اللام)، وهو الأمر ذاته الذي نلمحه في نص
"حلم" الذي وظفت فيه القوافي المرسلة التالية في نهاية مقاطعه (الرحمة ـ
اليومي ـ القمع ـ الأمل) وفي هذا المنحى سارت جل نصوص الديوان. وإلى جانب هذا
النمط وظف الشاعر القوافي المتواطئة، وقد استنبط محمد بنيس هذا النوع من التقفية
في الشعر الحديث من رصد النقد القديم لظاهرة تكرار القافية في الشعر العربي، حيث كانت
تعتبرها عيبا سمي بالإيطاء، و"يقصد بها القافية التي تنادي على توأمها في
البيت الموالي أو الأبيات الموالية."[5]
ويحتل هذا النمط حيزا كبيرا في هذا الديوان، ويتخذ أشكالا متنوعة، إذ يكرر الشاعر
نفس اللفظة في نهاية كل مقطع كقوله: "ما أجمل ذلك" في نهايات مقاطع
قصيدته "نداءات" (ص 17) والتي اختار لها ـ في بدايات المقاطع ـ تكرار عبارة " ما أسعدني" ليمنح النص
كثافة موسيقية وليبنيه بناء حلزونيا. وتجدر الإشارة إلى أن الشاعر كرر هذا النمط من
البناء في أكثر من قصيدة مثل قصيدة " ما تيسر من سفر الخروج" إذ كرر
كلمة (نخرج) في بداية كل مقطع، وقصيدة "حلم" التي كرر فيها عبارة
"أحلم أحلم بامرأة تأتيني" وقصيدة " باسم الحب وباسم الحرف"
التي كرر عنوانها في بداية مقاطعها، وقصائد: "اعتراف" و"شفشاون"
و" ثلاثية الحرف والبعث" وغيرها حتى لنكاد نقول إن البناء الحلزوني هو
الطاغي على البنية الخارجية للديوان. مما يؤكد حرص الشاعر على التكثيف الموسيقي
بدل التنويع، ولعل ميزة هذا الإطار هي توزع القصيدة إلى مقاطع مع تكرار نفس
البداية في كل مقطع، وتنبني على الدفقة الشعورية، كما يسميها عز الدين اسماعيل، إذ
للقصيدة نقطة انطلاق شعرية تبدأ منها وترتكز عليها يعبُرُ الشاعر فيها مجالا شعريا
محددا ومغلقا، يكشف فيه عن شطر من رؤيته الشعرية، ليدخل مجالا شعريا آخر إلى أن
تنتهي القصيدة معلنة اكتمال الرؤية الشعرية، ذلك أن كل مقطع يكتسب استقلاليته و
كأنه حركة منفصلة تنعزل عما سواها من الحركات / المقاطع، ويندغم بها في الآن ذاته.
كما نلاحظ في الديوان غياب القوافي المتراسلة، لأن هذا النوع من القوافي
يمكن اعتباره امتدادا طبيعيا للشعر القديم، إذ يتكرر نفس الروي في نهاية كل سطر أو
كل بيت، و"من الجدير بالذكر أن هذا النمط القافوي غالبا ما يوجد لتحقيق إشباع
غنائي أو لون من الانتشاء الذاتي."[6] وهذا
النمط قليل في الشعر الحديث لأنه يخلف نوعا من الرتابة، وقد حاول الشعراء
المعتمدون هذا النمط تكسير هذه الرتابة بالإتيان ببعض الأبيات المرسلة أو الشاردة،
وعلى نفس الخط سار الشاعر عبد السلام مصباح.
وإلى جانب القافية في نهايات المقاطع الشعرية اختار الشاعر قوافي داخلية
أغنت النصوص صوتيا ودلاليا، ويكفي أن نمثل لها بقوله:
أنت قرنفلة الماء الجائل
تحت ضلوع الخيمة
والرمل
وبين تراجيع الخيل
تفاصيل الليل
وفي مملكة العشاق
الشعراء (ص35)
فأدرج ثلاث كلمات (الخيل ـ الليل ـ الرمل) لتشكل قوافي داخلية لهذا المقطع
الشعري.
ج ـ التوازي والتكرار:
اهتم الشاعر عبد السلام مصباح
بعناصر الإيقاع الداخلي، فحرص على استثمار التوازي، وتنويع تشكيلاته سواء من
الناحية الصرفية أو النحوية أو الدلالية، وقد نوع في البنيات التي اعتمدها لتحقيق
جماليته ومن أمثلة التوازي التركيبي:
ـ طرت شهرا /طرت عاما/ طرت عشرا/ طرت عمرا
ـ طرت حتى ملني بحر الزمن/ طرت حتى عافني درب السفر
ـ ليس بها شرق غرب/ ليس بها أنت أنا/ ليس بها غير الألفة.
والمتأمل في هذه الأمثلة يدرك أنها تؤدي وظيفة إيقاعية صوتية بسبب تكرار
الصيغ والحروف، وإلى جانبها تؤدي وظائف تعبيرية كالتنامي في المثال الأول والترادف
في الثاني والتوحد بين المتقابلات في الثالث؛ مما يمنح النص قوة موسيقية و طاقة
إيقاعية هائلة تخلق صورا سمعية لافتة.
أما التكرار فهو يغطي مساحة واسعة داخل رقعة النصوص، ويتخذ مواقع متنوعة،
فأحيانا يأتي في أول النص ليمنحه بناءه الحلزوني، وأحيانا يتخذ شكل القوافي
الداخلية وأحيانا يستأثر بموقع القافية ضمن ما أشرنا إليه من قواف متواطئة. ومن
أمثلته في بداية النص:
ـ أحلم/ أحلم بامرأة تأتيني...
ـ نخرج/ نخرج من قبو الكلمات
أما في وسطه فنمثل له بقول الشاعر:
ــ نرقص/ نرقص/ نرقص حتى يورق نبض القلب.
وقد منح التكرار للأفعال وظيفة تصويرية وأعطاها حركية حتى لكأننا أمام
مشهد.
وقد استثمر الشاعر إلى جانب ذلك ما تمنحه كافة العناصر البلاغية من إيقاعات
فوظف الترصيع والتجنيس، إذ هيمنت صيغتي (فعْل ـ فعَل) على جل ألفاظ النص مثل:
ـ فعْل = طير ـ خلف ـ شهر ـ عشر ـ يأس ـ قهر ـ همس...
ـ فعَل = سفر ـ زمن ـ شجر ـ نغم ـوطن ـ تعب ...
مع التجاور الممكن بينهما مما يؤكد حضور التكثيف الموسيقي داخل هذا الديوان
حتى أنه غدا ظاهرة لافتة تعكس روح التجريب لدى الشاعر عبد السلام مصباح من داخل
النسق العروضي التراثي وليس من خارجه.
في الختام: نؤكد أن تجربة الشاعر
المغربي المبدع عبد السلام مصباح ترتكز على ثلاثة عناصر أساسية تمنحها فرادتها
وتميزها هي: الإيقاع والرؤيا واللغة الشعرية، وهي الأسس الضرورية لكل شعر جيد.
وبتوظيف هذه العناصر استطاع الشاعر أن يحقق لنفسه موقعا داخل خريطة الشعر المغربي.
فهو قامة شعرية، يصعب على دارس القصيدة المغربية القفز عليها. وكل محاولة للكشف عن
مكامن السحر والجمال في القصيدة المغربية المعاصرة لابد وأن تجد في هذه التجربة
الممتدة، والباذخة إيقاعا وصورا وخيالا بغيتها.