السبت، 10 نوفمبر 2012

قصة قصيرة " أعضاء الخيـــــــط " ذ. محمد مباركي


قصة قصيرة " أعضاء الخيـــــــط "



ذ. محمد مباركي / وجدة / المغرب


لما تلظـّت نار الحرب التحريرية في القطر الشقيق، هاجرت نهاية الخمسينات الكثير من الأسر الجزائرية إلى مدن شرق المملكة الشريفة هاربة من جحيم المستعمرين الفرنسيين. لم يسكنوا خياما، بل سكنوا دورا، على بساطتها، احتموا فيها من الجوع والبرد والرعب.
ومن الأسر المهاجرة أسرة سي العربي، بهذا الاسم الحركي كان معروفا. و اسمه الحقيقي "بوعلام بن قدور المهاجي" ، من نواحي مدينة سيدي بلعباس . تعلم فكّ الحروف العربية وحفظ بعض سور القرآن الكريم في كتّاب قرية "ديتري". ودخل المدرسة الفرنسية مع أبناء الأهالي، فكان يتكلم اللّغة الفرنسية بطلاقة كلغته الأم. تميّز من بين المهاجرين بدماثة الخلق وبسحر شخصيته المحبوبة المؤثرة على الناس.
كان سي العربي مطلوبا من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي بتهمة العقل المدبر والمنفذ لمجموعة من العمليات الفدائية. أودت بالكثير من جنود اللّفيف الأجنبي في مدينته. فهرب سالكا "طريق الوحدة" من قرية "بور صاي" إلى "سعيدة بني عجرود". ونزل ضيفا على خاله بوجدة. استطيب المدينة وأهلها، فطلب من أعضاء " الخيط " أن يلحقوا به زوجته وأبناءه، حين جاءته رسائلهم تحكي معاناتهم من التضييق الشديد عليهم من قبل المستعمرين وأعوانه من "البياعة".
اكترى سي العربي غرفة في حوش "يامنة بنت الطاهر" بحي الطوبة الخارجي. كان هذا الحوش التقليدي مكونا من سبع غرف مبنية من الحجر الكلسي والتراب ومسقفة ب "الخشبة" والقصب و"المسوس". يتوسطه فناء مربع ينتهي بدخلة ومرحاض مشترك وباب خارجي يظل مفتوحا نهارا وجزءا من الليل . سكنت هذا الحوش المعد للكراء ست أسر مع صاحبته العجوز.
حين دخلت أسرة سي العربي غرفتها في الحوش لاحظت صاحبته والجيران تلك الحالة البئيسة للجيران الجدد. استنفرت "يامنة بنت الطاهر" الجيران داخل وخارج الحوش للقيام بالواجب. والواجب هنا في مثل هذه الأحياء الشعبية هو مدّ يد المساعدة للغرباء، تبدأ بإطعامهم. فكل جار يكفي الأسرة طعام يومها على الأقل في أسبوعها الأول. ويأتي الجيران بما فضل عليهم من أفرشة وملابس وأواني وبعض النقود. من ليلتها أمست أسرة "سي العربي" مكفية و انستر حالها وسُرّ أفرادها .
عمل "سي العربي" كسائق تاكسي على الخط الرابط بين وجدة وبركان. وساعده عمله هذا على التحرك اليومي على طول الحدود والتنسيق بين "أعضاء الخيط" في المنطقة. كان يعمل ليل نهار وفي رأسه ألف مشكلة ومشكلة، وأثر على اهتمامه بأسرته. لبس قضية وطنه لبوسا وعمل على تصديرها إلى قلوب الناس. كان يردّد على جلسائه وركاب سيارته لازمة استجداء بلكنته الجزائرية:
"خاوتكم راهم فالنار" .
فتحنّ قلوب الناس وتجود ب "المكتوب" . يجمع "سي العربي" الفرنكات ويوزعها على الأسر الجزائرية الحديثة العهد بالهجرة إلى وجدة. كان قلبه مدينة بحالها، سكنتها محبّة العباد. تجوع أسرته ولا يمكن أن تجوع أسرة جزائرية فطمها الاستعمار عن وطنها.
لما تحسّنت حاله، اكترى "سي العربي" لأسرته حوشا مستقلا في ذات الحي بأمر من "أعضاء الخيط" الذين كانوا يتنقلون ليلا من غرب الجزائر إلى وجدة. يجتمعون ويتدارسون القضايا ويخرجون بقرارات ويبلّغون أخرى، وقبيل الفجر يعودون من حيث أتوا أو يبيتون في السر ومع الظلمة ينسحبون.
كان المخزن يعلم بتلك الاجتماعات ونشاطات "سي العربي" عبر عيونه من الشيوخ والمقدمين، ولم يكن يتدخل، بسبب ذلك التعاطف الكبير مع الثورة الجزائرية. لكن الذي حيّر المخزن والناس في وجدة تلك الجريمة التي ذهب ضحيتها "سي العربي" في مكان على الحدود يسمى "الديوانا"، إذ عثر بعض الرعاة على جثته في صباح ممطر.
علم المخزن أن في تلك الليلة الظلماء، ومع منتصف الليل أنهى "أعضاء الخيط" اجتماعهم في عجالة، وطلبوا من "سي العربي" على غير عادتهم مصاحبتهم إلى "الديوانا" لمقابلة أحد قياديي الجبهة. لم يستسغ الرجل الأمر و لم يَدُرْ في خلده الغدر من قبل من اعتبرهم طول حياته "خاوا".
وازدادت شكوكه مع همهمات الرجال طول الطريق. فكر أكثر من مرة في الإفلات منهم لكن شجاعته ابتلعت تلك الرغبة في عناد الكبراء.
في "الديوانا" وقف الجميع أمام شبح رجل قصير مندسّ في جلباب قصير يغطي رأسه ووجهه بعمامة. هبّ سي العربي لمعانقة الشبح على عادة "الخاوا"، لكن الشبح تراجع خطوة إلى الوراء واستل مسدسا من تحت جلبابه وضغط على الزناد، فخرجت رصاصة عمياء خرقت الجهة اليسرى لصدر عريض حمل قلب رجل نسي مؤرخو الثورة ذكر اسمه في مسودات "كِذّابــــــــاتهم" .

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م