خصوصية
الإبداع والإقناع
في
ديوان:
"لو نبهني الحب" للطيب هلو
الجزء الثاني
د.
محمد دخيسي
(حفل توقيع الديوان،
المقهى
الأدبي ميرابيل Mirabelle -
وجدة،
الاثنين
10 رمضان 1433هـــ،
الموافق
لـ 30 يوليوز 2012م)
2- المرجعيات بين
التصريح والتلميح:
جال الطيب هلو في ديوانه "لو نبهني الحب" عبر
محطات مختلفة، توزعت بين الجانب الديني والثقافي والاجتماعي. ونركز بحثنا هنا على:
2-1 القرآن الكريم:
حين نتحدث عن استغلال الشاعر طاقاته الذاتية والفكرية،
فإن ذلك دليل على عمق تجربة شعرية ضربت بآفاقها في عمق التاريخ والأدب والتراث بكل
أنواعه. حاول الطيب هلو في ديوانه "لو نبهني الحب" أن يجعل من بعض آيات
القرآن نبراسا لا من حيث المعاني؛ بل بإثارة الانتباه إلى لغته وتركيبه المعجمي.
نقرأ في قصيدة " أرتاب من قلق السحاب" قوله:
هذا أميرٌ تائِهٌ...
بَيْني وبيْنَ غِوايةِ الأمَلِ الذي رَبَّيْتُهُ
حينَ اسْتدارَ مُوَلِّياً وَجْهَ القصائِدِ
شَطْرَ إيقاعِ الطَّويلْ 16
فنلاحظ أن الشاعر تعامل مع القرآن من حيث التعبير
اللغوي، واستطاع أن يوجهنا مباشرة إلى مصدره بتغييره عن أصله؛ عكس ما خلص إليه حين
تقاطع مع الآية نفسها في أبيات شعرية أخرى، حيث يقول في قصيدة "لا يفلح
الشاعر حيث أتى":
يَمَّمْتُ وجهِي شَطْرَها
وَبِأُذْنِها...
كَبَّرْتُ في هَمْسٍ شَهِيْ 17
كما أننا نسجل تعاملا مشابها مع بعض آيات القرآن من خلال
اقتباس لألفاظ منفردة 18، أو عبارات (آيات) محوَّلة من القرآن. 19
2-2 الشعر العربي:
حين أقرأ شعر الطيب هلو أشعر أني أمام امتداد للشاعر
المغربي الكبير محمد الطوبي، وقد حاولت كثيرا أن أجد العلاقة من وراء إحساسي، وعن
القرينة اللفظية أو الدلالية بينهما؛ فكانت الخلاصة أن شاعرنا يكتب شعرا نسجه نسج
شعر عربي أصيل شأن الطوبي، وأنه يمازج اللغة الصوفية باللغة اليومية التي تحكمها
الذاتية والوله المشدود إلى الآخر.
بالرغم من ذلك، هناك ارتباط جوهري بين الشاعرين، وإلا
لما اختار هلو المطبعة ذاتها التي كان ينشر بها الطوبي، فطبع ديوانه الأول:
"قمر العتاب"، ولما خط الطوبي بخط يده أشعار هلو وسجلها في الصفحة
الأولى. 20
لمحمد الطوبي ديوان بعنوان: "أيقونة العاشق
المغربي" 21، وللشاعر الطيب هلو قصيدة بعنوان "تعويذة العاشق
الأندلسي"، وهذا ما يبرر بعض حكم الانسجام بينهما. وهناك كثير من الألفاظ
المستعملة من كلا الطرفين مع ذكر السبق الزمني للطوبي.
حين استعملت لفظة الامتداد أول حديثي، كان ذلك نابع من
قراءة لشعر الشاعرين، دون انتقاص طبعا من قيمة اللاحق عن السابق.
نأخذ مثالا واحدا من إبداع الشاعرين؛
يقول محمد الطوبي:
أنا الذي هَدَّهُ الإرهاقُ والقَلَقُ
الأربعونَ معي يَحْيا بِها الأرَقُ
الأربعونَ أراها لا أرى وَطناً
خرائبُ العُمْرِ لا يأتي لَها الألَقُ 22
ونقرأ مقطعا من قصيدة للطيب هلو، يقول فيه:
إني اعْتَرَفْتُ طويلاً:
فِي
دمي وَلَعُ
عُمري البَهِيُّ متاهاتٌ معلَّقةٌ
في سَقْفِ ذاكرةٍ أوْدى بها الوَجَعُ.. 23
إلى جانب التناص مع الطوبي؛ نجد حضورا لقصائد وشعراء،
سواء بالتصريح المباشر، أو عبر قرائن مختلفة. فمن المتنبي، مرورا بمحمود درويش ثم
أمل دنقل والسياب، وصولا إلى محمد علي الرباوي وعبد السلام بوحجر وغيرهم.. ولعل
هذا الأمر يُحسَب للشاعر وليس عليه، لأنه دليل على عمق التجربة الشعرية، وتأصلِ
المرجعيات، وانفتاحِ الشاعر على التجارب السابقة.
من أمثلة ذلك، نذكر:
أولا: حضور محمود درويش من خلال جملة من التجارب، كقصيدة
"عابرون في كلام عابر" وتجارب أخرى. خاصة حين نقرأ قصيدة "تجليات
في مرايا الحبر" 24
ثانيا: حضور المتنبي باستغلال اسمه أو بعضٍ من الأحداث
المتصلة به. 25
ثالثا: أمل دنقل من خلال تناصه مع قصيدة "لا
تصالح"، فالشاعر الطيب هلو يناور دنقل ويستدرج قصيدته "لا تصالح"،
ويقوم بتطويعها وفق هواجسه ورغباته.
يقول هلو:
"أملٌ" يَنوحُ عَلَى
دواوينِ الهَزيمَةِ:
لا تُصالِحْ...
لا،
ولَوْ مَنحُوكَ أكياسَ الذهبْ 26
ونقرأ في قصيدة "لا تصالح" لدنقل قوله:
لا تصالح!
ولَوْ مَنَحوكَ الذهَبْ
أتُرى حينَ أفْقَأُ عَيْنَيْكَ
ثُمَّ أثَبِّتُ جَوْهَرَتَيْنِ مَكانَهُما.. 27
ولعل السبب الذي جعل الطيب هلو يستنشق بنسمات أمل دنقل؛
كون هذا الأخير لامس كثيرا من القضايا العربية الراهنة، بالرغم من قدم نصه، يقول
دنقل:
لا تصالح
وَلَوْ تَوَّجوكَ بِتاجِ الإمارَةِ
كيفَ تَخطو على جُثَّةِ ابْنِ أبيكَ؟
ويقول الطيب هلو:
أوْ تَوَّجوكَ مَليكَهم
وَعلاكَ تاجٌ
ليْسَ يُسْقِطُهُ الشَّغَبْ
فاستطاع الطيب هلو أن ينزِّل النص إلى أبعد نقطة
تُوصِلُهُ بمضمون واقعه ومعيشه. وللإشارة فنص "لا تصالح" له أصول ثقافية
أيضا، حيث يتقاطع مع شعر الشنفرى وهو أحد الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي.
ويظهر ذلك من خلال المقطع السادس من نص أمل دنقل، بالرغم من احتوائه سمة العصر
الحالي وكل الأجيال، يقول:
لا تصالح
ولو ناشَدَتْكَ القبيلة
باسْمِ حُزْنِ "الجليلة"
أن تَسوقَ الدِّماءَ،
وَتُبْدي لِمَنْ قَصَدوكَ القَبولْ..
فالشنفرى هو المعروف في تاريخ الشعر العربي بقصة
الانتقام بقتله مائة من أعدائه، أو ما عدى ذلك حسب بعض المصادر التاريخية.
رابعا: عبد السلام بوحجر: لعل ما جعلنا ندرج اسم الشاعر
المغربي العربي عبد السلام بوحجر في محور التناص عند الطيب هلو، ما لمسناه من
تشابه وتثاقف بين نص "أحبك حتى انتهاء الرؤى" 28 للطيب هلو، وقصيدة
"مقام الجنون" 29 لعبد السلام بوحجر.
يقول بوحجر:
يا فريدَ زَمانِهِ ما أجْمَلَكْ!
أتُرى وَصَلَتْكَ رسائلُ حُبي التي
صُغْتُها بِدَمِ القَلْبِ لَكْ؟
وَوُقوفي بِبابِكَ سَبعَ سِنينَ
مِن الاِنْتِظارِ
أمَا أخْجَلَكْ؟
......
في حين نجد الإيقاع مشابها في نص هلو بإنشاده:
وما همَّهُ
مِنْ نعيمِ الحَياةِ
سِوى أنْ يراكَ
كَطَيْفِ البَهاءِ الذي جَمَّلَكْ
فراشةَ شِعري الذي ظَلَّ.. لَكْ...
إنه البوح الشعري المنسجم مع الرؤى الفكرية، والتناغم
الشعري الذي يفضي إلى توحد الرؤى كذلك، فينسج الشاعر هديل كلماته في تناغم مع شاعر
آخر، وفي كثير من الأحيان لا يكون له صلة به، ولم يسبق له التواصل به، أو مع شعره؛
فيكون ذلك دليلا على سعة الشعر وملكوته التي تُزيح كلَّ الحواجز، وتحطم كل القيود
التي يُكبِّلنا بها التاريخُ، وتتحكمُ فينا باسم الجغرافيا والتصاميمِ الهندسية
والعمرانية.
-----------------------------
هوامش الجزء الثاني
-
16-الطيب هلو، لو نبهني الحب، ص. 22
-
17-المرجع نفسه، ص. 55
-18-
لفظة صعَّر في قوله: فصعر للقصيدة خده، ص. 57
-19-
نأخذ مثالا عنوان قصيدة له: لا يفلح الشاعر حيث أتى، ص. 55
-
20-الطيب هلو، قمر العتاب، مرجع سابق.
-21-
محمد الطوبي: أيقونة العاشق المغربي، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان،
ليبيا، ط. 1، 1985.
-23-
محمد الطوبي: أنت الرسولة أيقوناتك اندلعت، دار القرويين الدار البيضاء، ط. 1،
2003، ص. 19
-24-
الطيب هلو، لو نبهني الحب، ص. 33
-25-
المرجع نفسه، ص. 15 وما بعدها
-26- المرجع نفسه، الصفحات 35-
37...
-27-
المرجع نفسه، ص. 49
-28-
أمل دنقل: قصيدة لا تصالح، منقول من مجلة عيون المقالات، ع 5، 1986، ص.2 وما
بعدها.
-29-
الطيب هلو، لو نبهني الحب، ص. 63