الخميس، 23 أكتوبر 2014

بَيْنِيَة الذّات بين المرآة والبحر/إدريس زايدي

بَيْنِيَة الذّات بين المرآة والبحر
في ديوان " المرآة والبحـْر "
 للشاعر عبد الله فراجي
    



إدريس زايدي

( أقف أمام المرآة . يعتريني الخوف . أكتشف أن الآخر ليس سواي )
============
لا شك أن ديوان الشاعر عبد الله فراجي يحمل أسئلة وجودية ملحة من خلال اختيار عنوان "المرآة والبحر" . وحيث لا يمكن الإلمام بكل الأسئلة ، لا ينبغي أن ننتظر من الأجوبة أن تكون كافية ، بقدر ما يمنحه الديوان من وجوه للرحلة السندبادية برا وبحرا . فالديوان بالقدر الذي يبدو واضحَ المعالم لغةً وأسلوبا وتصويرا ، فهو يخفي أسراره وعمقه تحت لغة آمنت بأن الشعر لا يكون في ظاهره ، بل ليس الظاهر سوى رؤيةٍ لعاشق يمنح نفسه حق القراءة والنظر كمعبر نحو متاهات التولّـُه في الذات حين يحاصرها صوتُ الصورة ووجه الماء .
في بينية الذات
إن عنوان قراءتنا اخترناه أن يكون مصدراً ب" بينية الذات " ، وشرعية الذات تحضر في الديوان من زاويتين : فأما الأولى حديثُ الذات الشاعرة مع صورتها على المرآة كفضاء محصور. وأما الثانية فرغبة الذات في رؤية ذاتها في الامتداد بحرا . ومن هذا المنطلق تتأسس المفارقة الأساس ، هي صوت الصراع بين المحدد وغير المحدد ،وذلك اعتبارا للذات كأيقونة منفتحةٍ ومتشظيةٍ في الكلمات وبالكلمات ، حيث تنعكس امتداداً يضارع البحر ، فكانت المرآة وكان البحر على طرفي انصهار يشكلان بنية الذات التي تتموقع بينيا ، وتتراءى من خلال فضاءين ، هما وجه المرآة ووجه البحر الذين يخفيان رؤية الشاعر الذاتية ، والتي نبادر بالحكم عليها بالانكسار.
وإذا كانت البنية بمفهومها العلمي تهتم بكل العناصر المشكلة لمنظومة العمل في تفاعلها وتشاكلها ، فإن ما ينبغي الاهتمام به في العمل الأدبي عند شاعرنا ، هو ما يحدث من نقلات بينها ، أي كيف تتسلل بنية نحو أخرى بناء أو هدما لتشكيل نموذج بنائي جديد . فمهما كان البناء متماسكا وقويا فمبدأ الهيمنة يحيل على بنيات صغرى ، قد تكون إحداها بؤرة العمل ، حين يتجه صوبها باقي البنيات دون أن يتساوى الكل مع الكل . وهو ما يستدعي قراءة أعمق للديوان ، تتبع مجمل الاتجاهات الدلالية فيه . ولعل هذا ما تقصده العناوين الكلية والفرعية حين تطلق التسمية بدقة ، إذ يصبح العنوان حاملا لدلالة نصية هي عينه .أي يصبح العنوان نصا قائم الذات من جهة البناء والدلالة ، ويكون مكونا بنيويا أساسا في منظومة البنية العامة للنص كمعنى جنيني وتكويني ، يستهدف تحقيق دلالة مهيمنه ك"موتيف " رمزي دال على رؤيا الشاعر كلا أو جزءاً ، تلك الرؤيا التي لا يمكن البحث عنها إلا بين المرآة والبحر .
صورة الذات في المرآة والبحر
إن عنوان الديوان "المرآة والبحر" ، يستدعي إواليات قرائية حول الخلفية الثقافية لرمزية المكونين الذين جاءا متعاطفين تناظريا ، مما يحيل على التساوي من جهة التعريف والإفراد والدلالة . فالمرآة بحر، والبحر مرآة . وهي المعادلة التي تحققت في الذات كبنية شعرية على مستوى التخييل والتصوير . وحيث لا تنعكس الذات إلا من خلال المحمول الذي تَشَكَّل فيها ثقافيا واجتماعيا ونفسيا ، جاءت الصورة تمويها لغويا يتجاوز مساحة المرآة ،وذلك لتعانق البحر بإيحاءاته وأسئلته عن طبقات الغور فيه .
إن المرآة بهذا المعنى تبدع الصور ، وهي مصدر التأمل ، ففيها يتحقق طموح الكلمة أن تصبح وسيلة للتأمل ، بل تسعى الكلمة إلى أن تكتسب قيمتها الصورية من خلال فعل الارتماء على المرايا لتتعقد الصورة أكثر كلما انثنت لتتحول إلى شظايا وتموجات لغوية تصنع بنياتها المتحركة والمتسارعة ، وهو ما استدعى الشاعر أن يقرن المرآة بالبحر ، لأن هذا الأخير هو التجلي لمواجدَ لم تعمل المرآة سوى بتحريكها . وهذا ما سيحول كل واحد عن فعله الأول إلى الثاني ، فيتحدا في ذات الشاعر. فالمرآة منبع والبحر مصب ، وبينهما تتشكل بنية الذات في تحولها الإشراقي الحالم . رغم ما يستفاد من المعنى الظاهر من انكسار .
إن الذات لا تعدو كونها بناءً رمزيا ، تستمد كينونتها من خارجها . فالشاعر عبد الله فراجي يستوحي من ثنائية المرآة والبحر أسئلة انطولوجية يحاور من خلالها الأمداء ، فيسمي مكوناتِها بلغة ذاتية تختصر الفعل الحضاري كرؤية حالمة للوجود . وعليه تغدو المرايا حسب قول كاستون باشلار: " أدوات كثيرة التحضر ، كثيرة الاستعمال ، كثيرة الأشكال ، هي بكل تأكيد أدواتٌ للحلم من أجل أن تتوافق مع عالم الأحلام "[1]
وليس ترادف المرآة والبحر غير استحضار لعمق الشاعر في الكلماتالمحملة بالمدلولات المحتملة والخلفيات الثقافية التي تفتقر إلى ضرورة التأويل ، لأن طبيعة اللغة كرمز هو تعلقها بالواقع وانفصالها عنه في الآن نفسه ، وهو ما جعل الشاعر يبحث عن تجليات علاقة اللغة بمظاهر الثقافة التي يراها في المرآة كمعادل للواقع الثقافي غير القادر على التعبير عن نفسه بتحويل اللغة إلى كلام ، حيث يكون الاستعمال ترجمة لحقيقة الفعل عند الإنسان. وهذا الأمر سيجعل من بنية الذات موضع البوح الشعري ، تسائل وتسأل عن الوعي الشقي لدى الشاعر، على غرار الشاعر الفرنسي بودلير الذي عانقمرآته في قصيدة " الإنسان والبحر " من ديوانه "أزهار الشر" بقوله :
إنسان حر ، دوما تحب البحر
البحر مرآتك ، تتأمل روحك
تسير كموج دون انتهاء
وفكرُك غورٌ ليس أقلَّ مرارةً
فيُعجبك أن تَسْبح في صورتك
تُـــقبلها بعينيك واليدين
فالمرآة تلعب دورا كبيرا في تحقيق التوازن ، حيث تصبح بؤرة لشبكة من الصور والموضوعات ، وهي – المرآة – قد ارتبطت على مرِّ الزمن بثقافة الماء والبحر ، فهي البريق واللمعان أشبه بالسراب . والماء بهذا المعنى يشبه الأحلام ويستدعيها بشكل قوي ، ما دام القاسم هو ذلك الانعكاس الوهمي بالشيء .هكذا تتجاوز المرآة أن تعكس صورة الإنسان ، بل يصبح الإنسان هو نفسه الصورة المجازية للأشياء بل لكل محيطه ، إنها عملية الرؤيا الشعرية التي لا تتحدد بالأشياء ، بل بظلالها . وعليه يكون الشاعر صوتا للمرآة والبحر معا . بل صورة لكل ما يعيشه حبا وفكرا وتاريخا وثقافة، كرمزية للوجود الذي يسكنه . ومن هنا تعلق الشعراء كما شاعرنا عبد الله فراجي بالماء كعنصر للحياة ، خاصة وأن وجهه البحري تحول إلى مرآة مستفزة لأسئلة الذات عن بنيتها ، وأمست الصورة وجها يترجم العلاقة مع هذه الحياة ، أشبه بعلاقة شرعية من حيث كون كل إنسان يتآلف طبيعيا مع نمط من الرؤيا لوجود يتنازعه الجبر والاختيار .
إن لفظة المرآة أمست مفهوما أساسا في الشعر العربي ، وذلك مما يختزله من دلالة رمزية ناتجة عن توظيفه كتقنية ، وهي التقنية التي لم يُولِها النقد العربي الحديث عناية قدر الاهتمام بالقناع وأنواع الرمز ، رغم الحمولة الدلالية التي اكتسبتها المرآة منذ القدم . فالبحر صورة رمزية لنفسية الإنسان العربي ، كما جاء في قول امريء القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله *** علــــي بأنواع الهمـــوم ليبتـــلي
ونفس الحال عبر عنه الشعراء المحدثون . فهذا الشاعر علي جعفر العلاق[2] ، يقول :
أرى ماء المرايا مائجاً فينا
استحلنا كلُّنا الآن مراياها
اشتعلنا في لظى الماءِ
تَرى فينا ندى فضّتها.
وفي هذا الصدد يرى جابر عصفور أن استخدام الأدب للمرآة كانعكاس يؤكد " ثبات الأدب إزاء موضوعه ، ومن ثم ثبات صورة المرآة إزاء ما تعكسه " [3]. فبهذا المعنى فإن الذات تعكس موضوع إدراكها وتحاكيه بالطريقة التي يماثل فيها العمل الأدبي صور المرآة ، ويتضح ذلك عند الشاعرعبد الله فراجي وهو يتحدث في المقطع الثالث ( في عمق الذات) من القصيدة التي تحمل عنوان الديوان (المرآة والبحر ) ، يقول وبطريقة توصيفية سردية لأناه المعذبة :
وأنا في تلك اللحظة كنت صبيا
أخطو نحو سواد اللجة والبحر
تشرق أنفاسي من ظلمات البحر
إلى أن يقول :
وعلى جسدي ...
اَلمرآة انتصبتْ
عكست عنف الأبعاد المحترقة
كانوا خلف المرآة .
على جسدي ...
المرآة انكسرتْ
سقطتْ أشلاء في الوطنْ..
شنقوني ولا من يدري .
إن الشاعر عبد الله فراجي في ديوانه يستعمل المرآة كتقنية يستخدِمها بطرق متعددة ومتنوعة ، فتارة تعيد المرآة تشكيل الكون وتصوره من خلال ما تحيل عليه من موضوعات وتارة تأتي كمرآة لتصوير الجزئيات وأخرى تحيل على الصور المعنوية في تعددها الانشطاري . وتصبح الذات تبعا لها بؤرة التشابكات ، لدرجة أمست الدلالة زئبقية متحولة ، لكن بوعي وإدراك شعريين لموقعها. فهي تارة مطابقة للمرآة من حيث المكانية حيث يقول : (وعلى جسدي .../ اَلمرآة انتصبتْ ) وتارة تتوارى خلف المرآة لتكون صورة للآخر في قوله : (كانوا خلف المرآة .../ على جسدي ...) وأخرى تتحول إلى جزئيات تعكس الوطن ، يقول (المرآة انكسرتْ .../ سقطتْ أشلاء في الوطنْ.. ) وبين هذا وذاك تتشكل الذات في الوطن ومنه كما تتعلق بالمجتمع ، على سبيل التشظي كحالة وجدانية انكسارية أمام شبح مجهول . ويتضح ذلك من خلال نسْبِ فعلِ الكينونة إلى واو للجماعة (كانوا ) . فالشاعر لا يمكن أن يكون إلا ذلك الذي خانته المرآة التي لم تعكس صورته ، بل مارست عليه عنفها التغييبي الإقصائي ليجد نفسه في قبضة الجماعة التي مارست قسوتها ، بإلغاء صورته ، وبالتالي تصنع مرآتها الخاصة من الخلف . ويتحمل الشاعر عبء تحقيق رؤياه حين يجعل من المرآة قوة تثور طوعا في وجه انكسارها لتتحقق كلا منسجما من خلال تحولها إلى أشلاء في الوطن المكان والجسد ، وهذا ما يفسر علميا أن كل تحول هو إحالة على بنية أخرى جديدة .
الذات مرآة ثالثة
إن الشاعر عبد الله فراجي بين صورتي المرآة والبحر يصنع مرآة ثالثة في ذاته ، تعكس تجربة الاغتراب في مستويات عدة ، لعل أبرزها الموقف تجاه قيم الخيانة والغدر التاريخيين .
وبنَفَس درامي يستحضر تفاصيل الأشياء في قصيدة ( عندما أقرأ التفاصيل والمتناقضات ) . وهي مجموعة من اللوحات لا تتضمن لفظتي المرآة والبحر ، لكن المقاطع الخمس عشرة تحولت إلى مرآة يقرأ فيها الشاعر ذاته من خلال صورة الآخر المتسلط والمتجبر،يقول[4]:
عندما أقرأ التفاصيل التي أرقتني...
في معابد المدن العتيقة ..
وأرفع رأسي مخترقا لون السحابِ...
أتحلل كينونة هجينةً ..
في ساحة كبلتها الحجارة ..
وإذا انهالوا فوق رأسي كالجبال ْ
أموت منتشيا بالمرارة .
وبهذا المعني تتحول الذات نفسها إلى مرآة ، تحمل أشكالا من الصور والأصوات ، وتواصل الإبحار في قضايا وطنية وقومية عربية .
ورغم أن البحر كلفظة في الديوان جاء قليلا بالمقارنة مع المرآة ، فإن حضوره في قصيدته الأولى بل في جل شعره من خلالما يستدعيه كلمة " السندباد " كملازم أسطوري ، أكسب صورة البحر أبعادا انزاحت عن معناها الحقيقي لتحمل دلالات ورؤی جديدة ، وأحياناً تصبح رموزاً قوية في المنجز الشعري كله ، بحيث تدل علی حالات الاغتراب المتنوعة ، فتجاوزت دلالة الترميز للحياة والخصب ، لتدلّ علی الحالة النفسية المنكسرة لمشاعر الذات وشعورها باليأس وفقدان الأمل في حقيقة الأشياء. وهو مقصود من الشاعر عبد الله فراجي حين جعل من العنوان نصا يوجه القاريء للغوص في عوالم السقوط والانكسار من حيث الأبعاد السياسية والوطنية والقومية على غرار شعراء الحداثة في المغرب . فالبحر بالقدر الذي يحمل دلالة ترمز للخوف والغموض والرحلة في طريق الحياة ، وارتياد المجهول ، فإنه عند الشاعر وسيلة لمحاكمة الواقع غير المحدد المعالم . أي يستعير صورة البحر كرد فعلي تجاه قيم الواقع المنحطة ، وإعطاء الذات بنية قادرة على المقاومة . وهنا يتوحد الشاعر مع البحر ليؤكد من خلاله صورة الواقع الباعثة على التأمل .إنها ممارسة لفعل التواصل عبر لغة الجمال التي تكونت في الذات كرمز لغوي والبحر كرمز طبيعي ، وبين المرآة والبحر كان صوت الشاعر مرآة ثالثة .
إن البحر عند شاعرنا يعكس الطموح إلى تجاوز الواقع نحو عالم أكثر اتساعا ورحابة ، حيث تُحقق الذات كينونتَها في بُعديها الفردي والجماعي ، وهي نظرة ثنائية أكد عليها عز الدين إسماعيل بقوله :" عادية على المستوى الجمعي للإنسان ، لأن قصة الإنسانية إجمالاً هي قصة المغامرة في سبيل كشف المجهول ، وهي غير عادية على المستوى الفردي ، لأننا ألفنا الفرد الذي تتلخص فيه التجربة الإنسانية ... "[5] . فصورة الأنا / الذات السندبادية ، تحضر في الديوان بشكل مكثف ومتوال ، فتارة كصوت موجه لخارجها ، يقول الشاعر [6]:
رفعتُ راحتَيَّ كالمجنون أقطف الحروف
وأجمع المتلاشيات من الورق
أبني الحكاية والخيالْ
وتارة تستبطن الفعل الخارجي مستعينة بالمرآة ، حيث يقول [7]:
في صورة هذا الكون
كسروا الوردة في ظلي ،
واقتحموا ما في عمقي ،
وأعادوا تشكيل المرآة ..
تركوها غائرة ..
في درج من حجرْ ..
وبينهما تتوزع رؤيا الشاعر لتُبَنْيِنَ الذات في مواجهة أهوال رحلته السندبادية ، حيث يبحث عن لغة الخطاب الشعري المتعالي على لغة الخيانة والغدر في الواقع الذي يحمل رؤيا وجودية كوعي بانكسار القيم ، إلى جانب البحث عن جذوة نورانية تختصر الرحلة اللامتناهية . وعليه يجعل من الماء لفظا مرادفا للفظة البحر، فهو مادة شفافة التي تملك قدرة التطهير والكشف عن رغبة الذات في التحول عما علق بها من خداع ، كما تبين الأسطر التالية من مقطع ( الممنوع من الصرف) [8]:
يا هذا الشبقي المخدوع ،
يا هذا الحامل كأسا يشربها سمّاً ،
يا هذا المتصلب في رائحة الخوف ...
وقميصك مبلول عن آخره ،
مثقوب من طرفيه ْ.
إلى أن يقول :
يا هذا المخدوع المتباهي،
هل تستجمع قاربك البحري وتبحر ..
من أبراج الآلهة
فمتى ترحل ..؟
ومتى يأتيك حمامة نوح من زخم الطوفان ؟
إن صوت الشاعر عبد الله فراجي بصيغة النداء ، هو صوت موجه لمخاطب يشير إليه ب(هذا) . والمشار إليه هنا معلوم بالإشارة ، مجهول لأنه بدون تسمية . وحيث أداة النداء (يا) للبعيد ، دل الخطاب على معاناة الذات بين صورة الثبات (هنا) وصورة السفر(هناك) . فالمرآة الذاتية تنزع نحو الامتداد والهجرة نحو آفاق أرحب ، يقول :
أنا هنا ،
كالسندباد مهاجر ..
بلا سلاح في خطاي
لكن هجرة الشاعر لم تكن سوى سفر في الذات التي لم تنجح في أن تتحول إلاَّ نحو نفسها ، فيصبح صوت الأنا مشروخا في يد الآخر الذي يمارس عليه فعل الخيانة والتدمير القسري ،ويحوله إلى قربان هديةً غير مستحقة للآلهة في واقع مشحون بالهوان ، يقول [9]:
وصولتها تُقدّمني ..
قربان عيدٍ ..
في براكين الهوانْ .
إن الشاعر بين المرآة والبحر يتحول هو نفسه إلى مرآة ، حيث يعكس أفكاره ومواقفه وهو مؤمن بدوره الفكري ، فيحاول ترجمته وتصويره كانعكاس لوعيه الشقي ، في انزياح لغوي يعيد بنية الذات كشفا للاوعي الراكد فيها . ويعيد بناء المسافات الزمانية والمكانية فيطفو العقل الباطن ليعبر عن قضايا الذات الكبرى ، المتمثلة في قضية فلسطين والعراق في قصيدته ( مديح لشقائق النعمان) يقول [10]:
من جدار الخيانة ،
من سجف السحب ،
من مراكب تجمعنا في الرياح ..
إلى أن يقول [11]رافعا من قدر الشهداء :
أستشرف للشهداء قوافلهم
ثم يعود إلى صورة الذات يفضح حالها ، حيث يقول [12]:
فأنا لا أملك سرا أخفيه
بل أخجل من علن قد يفضحني
وفي هذا السياق تتحد رؤيا الشاعر البنائية ، حيث يسقط قناع المرآة ليكشف عن لعبة التجلي والخفاء بلغة كمال أبو ديب ، فهو لا يملك سرا بل يملك الخجل والخوف كقدرة ليس سهلا امتلاكها رغم ما فيهما من سلبية الدلالة . وحين نتأمل السطرين ، نرى أن المعاناة تأتي من خارج الذات ،أي من الآخر الذي يملك سلطة العقاب والفضح . فالشاعر يخشى التهمة ، مما يحول الجهر والوضوح إلى غموض وسر . وقد عبر عن ذلك بالضد ، وهو ما يجعل من بنية الذات في تحول مستمر . لأنها في كل مرة تأخذ لبوسا مغايرا لا يمكن الكشف عنه إلا في ما يتيحه السياقات من تأويل لباقي الأبنية السياقية والنصية والدلالية . فمعنى الكلمة كما يقول عبد السلام المسدي لا ينكشف إلا في حقلها الدلالي ، ضمن " ما تمثله کل الکلمات التي لها علاقة ما بتلك الكلمة سواء کانت علاقة ترادف أم تقابل الجزء من الکل أو الکل من الجزء " [13] .
إن المغامرة الفنية عند الشاعر عبد الله فراجي تحمل طابع مغامرات السندباد .فالشعر رحلة كشفية عن ماهية الوجود ، وبحثا عن سبل التحرر من أسر التخلف والقهر والانحطاط . هو بحث عن القيم الإيجابية في عالم منحط ، مستعينا بتقنية المرآة ليرى من خلالها كيف تتكون بنية صورتها ضمن باقي العناصر المكونة لرؤياه ، والتي عانقت عالم البحر تطهيرا عبر الرحلة والبحث عن الأفضل ، كما جاء في قوله تعالى: ( ربُّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيمَــاً ) [14]. وقد عبر عن ذلك الشاعر مستحضرا قصة الطوفان قائلا:
ومتى تأتيك حمامة نوح من زخم الطوفان
بغصن،
من وحل النهرين بماء.
فقد استعمل الشاعر استفهاما انكاريا ، ينكر في بنية اللاواعي للذات أنْ تجيءَ حمامة نوح بغصن . لأن الطوفان لا يشبه الطوفان الذي يعبر عنه ، فهو من وحل النهرين في إشارة إلى دجلة والفرات كرمزين للحضارة العربية الموؤودة . هكذا يستحضر الشاعر قصة الطوفان بصورة إيجابية يجعل من وحل النهرين مكانا لنبع الماء حيث الخصب بعد إبعاد كل عناصر اليباب المتمثلة في إبعاد الظالمين ، كما في قوله تعالى( وَقِـيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِين)[15] . فبالقدر الذي تحضر المرجعية الدينية ، تحضر ثقافة الشاعر الفلسفية والشعرية اللتين أسعفتاه على استدعاء رمزية عشتار[16] وجلجامش [17]وبابل [18] والريح[19] ، وكلها وردت في قصيدة " تحولات" [20] ، لتؤسس صورة المفارقة الذاتية لدى الشاعر من خلال تبني رؤية جلجامش الذي لم يستسلم لفتنة عشتار اللعوب لإيمانه بأن ظاهر الأشياء لا يعكس دواخلها ، حيث يقول [21] :
فتحت أبواب أنوثتها للأغراب
صاحت من شدة لوعتها ..
ثم احتضرتْ .
وأمام هذه الصورة التي تعكس السقوط ، يبحث الشاعر عن الصورة الإيجابية ،يقول [22]:
جلجامش ..
عاشق عشتار ..
عاشق بغداد ..
حبك يعصف كالطوفان ..
وهنا يستعين الشاعر بالمرجعية التاريخية التي تحكي عن بلاد الرافدين وجلال النهرين ، إذ يتحول التاريخ إلى قوة مرآوية ، تعكس صورة الذات القلقة والتي تحاول أن تجد مستقرا لرؤيا شعرية ، تبحث عن شيء يمنحها القدرة على الوجود. فتتحول الأنا إلى صيحات تعلو تارة وتخبو أخرى ، يقول[23] :
قاف معقوفةْ ..
صحراء وغبارْ ..
سقطتْ في الرملَة والأنبارْ
جلجامش .. عاشق عشتار ،
يمتد ويخترق اللعنات ،
كالمارد يعلو ..
فوق صقور الهكسوسِ ..
وزبانية الرومْ
وأباطرة الفرس ..
إن الشاعر قد شحن السياق الشعري بشحنة شعورية ، استطاعت أن تجعل من المرآة والبحر في النص ،رمزين يكتسيان دلالة وظيفية تشير الی ماهية الوجود . وبُناء على هذا الکشف الدلالي ، ابتعد عن الأبعاد المعروفة ليجعل من المرآة خطابا شعريا ذاتيا ومن البحر امتداداتها الحُلْمِية ، كما يقول يونغ نقلا عن ريتا عوض ، فالبحر" يرمز الی اللاوعي الذي تتحشد فيه آمال الإنسان وأحلامه ورغباته عارية عذراء لم تعرف قناعاً " [24]
فالشاعر يطهر ذاته ، ويعطيها شحنة قوية وجريئة ، يخاصم مرآته وجها لوجه مع صوته الداخلي ، هو صوت الأنا المشروخة بالطعنات . والنص الأخير في الديوان [25] ، خير تعبير عن رفض السقوط في شرك الواقع العربي الموبوء . فهو رغم الأيادي الآثمة التي تشكل بنية المجتمع العربي باسم الجبروت ، لا يستسلم ، يقول[26] :
يا هذا الصخر العاتي ،
تسرقني من ذاتي
تمنعني من نحت الكلمات ..
إلى أن يقول [27]:
لكن أرفض أن أسقط منهارا ،
وأمزق لائحة الترتيبات ..
أرفض نور الشمس إذا ذبلت أوراقي ..
وأطهر ذاتي ..
بالحب وبالكلماتِ.
والشاعر في موقف الرفض يطفئ لمعان المرآة وبريق البحر ، حين يقرن بين ذبول الأوراق ونور الشمس ، كدليل على اختلال التوازن في بينة الأشياء . وهو بذلك يحلم بإعادة الأسماء التي يكشفها نور الشمس ويعريها ... وفي ذلك تشكيل لرؤيا الذات بين الانكسار والأمل على غرار الشعراء المحدثين ، مع تنوع أعطى الديوان سعة بحجم البحر بإيحاءاته الرمزية لعلاقة الذات بالواقع العربي الجريح .
تلك كانت مرآة الشاعر عبد الله فراجي والتي لا يمكن سبر أغوارها إلا لمن عانق فيها البحر عبر قراءة وتأمل كبيرين للديوان الذي استضاف تجربةً ذاتيةً لشاعر آسرته شعرية المرآة والبحر فجاء صوتا مرآويا ثالثا هوعنوانُ بنية الديوانِ العميقة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إدريس زايدي ــــ
الهوامش :
ــــــــــــ
[1] كاستون باشلار، الماء والأحلام " ص32
[2]- علي جعفر العلاق ، ديوان " أيام آدم " قصيدة ( أغنية المرآة ) ص5
[3]- جابر عصفور ، المرايا المتجاورة ، ص 37.
[4]- الديوان ، ص 38
[5] - عز الدين اسماعيل ، ( 1972 م): الشعر العربي المعاصر / قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ، ط 2 ، بيروت ، دار الثقافة 1972 ص 203.
[6]- الديوان ، حروف تنبت زهرا ، ص 1 .
[7]- الديوان ، صور من قطف الريح ، ص 70 .
[8]- الديوان ، "تحولات " ص 20 -22
[9] - الديوان ، ( عابر في خطوها ) ص 69
[10]- الديوان ،( مديح لشقائق النعمان) ص 15
[11]- النص نفسه ص 16
[12]- النص نفسه ص 17
[13]- المسدی، عبدالسلام الأسلوبية والأسلوب، نحو بديل ألسني في نقد الأدب، تونس، الدار العربية للکتاب. (1977م)ص150
[14]- سورة الإسراء: الآية ، 66
[15]- سورة هود ، الآية 44
[16]- الديوان ، ص 19 و 25
[17]- الديوان ، ص 24
[18]- الديوان ، ص24
[19]- الديوان ،ص19
[20]- الديوان ، ص 19
[21] - الديوان ،ص 19
[22]- الديوان ، ص 28
[23]- الديوان ، ص 27
[24]- ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث ، المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت 1978 ، ص 103.
[25] - الديوان ، قصيدة " تطهير الذات " ص 81
[26]- الديوان ،ص 81
[27] - الديوان ، ص 82

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م