الثلاثاء، 19 فبراير 2013

من رسائل "مخطوط أُكتو": انجار رشيد سوسان

من رسائل "مخطوط أُكتو":
قراءة في نصوص أُضمومة: "مخطوط أُكتو" للشاعر سعيد هادف
إنجاز: رشيد سوسان

في البدء كان المخطوط:
عمَّ يحرص المرءُ حين يعثر على مخطوط؟ وعلى أي شيء يبحث بعد التأكّد من صحة نسبة المخطوط إلى صاحبه؟ لا شك في أنه يحرص في الحالتين معاً على تحديد أهم الرسائل التي ينضح بها ذلك المخطوط. أليست هذه الرسائل نفيسة جدّا كنفاسة ذلك المخطوط؟ بلى، إنها كذلك. وعلى قدر أهميةِ المخطوط تكون أهميةُ رسائله. وممّا هو معروف اصطلاحاً أن لفظ "مخطوط" يُطلق على كل: "نص مخطوط باليد (أو مطبوع على الآلة الكاتبة) تمييزاً له عن النص المطبوع."[1]
      ومما يتميز به المخطوط أيضاً أنه نسخة أصلية كتبها المؤلف بخط يده، أو سَمَح بأن يكتبها عنه الورّاقون والنّساخ. وإذا كان النساخ والخطاطون والورّاقون قديما قد اعتنوا بالمخطوطات فأبدعوا في زخرفتها بكل تفانٍ وإتقان "بالألوان الساطعة، أو بالذهب والفضة، مع استخدام خطٍّ مُتقن."[2] فإن الشاعر سعيد هادف صاحب "مخطوطنا" قد اهتم بمخطوطه أيما اهتمام، زخرفة وتطريزاً وإبداعاً، وذلك بيد ساحرة مبدعة، إنها يد طرّزها الإيحاء، وعطّرها المجاز، يد يَصدُق فيها قول الشاعر إبراهيم بن هلال أبي إسحاق (ت. 384هـ):
وكَمْ مِن يدٍ بيضاءَ حازتْ جمالها  = = =  يدٌ لك لا تسْودُّ إلاّ مِن النّقْسِ[3]
إذا رقّشتْ بيضَ الصحائِف خِلْتَها  = = =  تُطرِّزُ بالظّلْماءِ أَرْديةَ[4] الشّمسِ[5]
ذلك عن لفظ "المخطوط". فماذا عن كلمة "أُكتو"؟ إنها اختصار لكلمة (أكتوبر)، وبهذا تتضح دلالات "مخطوط أكتو" ومضامينه للقارئ كما يؤكد الشاعر نفسه؛ فهي مضامين تصور أحداثاً أليمة عاشها الشاعر والشعب الجزائري، وهي "حصيلة حوالي ثلاثة عقود من التجربة في الكتابة وفي الحياة."[6]
ومما وجب التأكيد عليه في هذا التقديم أن "مخطوط أكتو" يتضمن ثلاثة دواوين هي ديوان "مرثية لمدائن النفط" (1984- 1990)، ويتضمن خمس عشرة قصيدة، وديوان "العاطل عن الخطوة" (1990- 1993)، ويضم ست عشرة قصيدة، وديوان "البلاد التي..." وقِوامُه اثنتا عشرة قصيدة.
       يقول جون سيرل: "حينما أنفث واحدة من تلك النفثات السمعية في موقف اعتيادي، فيمكن القول إنني أؤدّي فعلاً كلاميا. وتقع الأفعال الكلامية في عدّة أنواع. فبواسطة هذه النفثات السمعية، أُصدر حكماً، أو أسأل سؤالاً، أو أُصدر أمراً، أو أَطلب طلباً، أو أُفسّر مشكلة علمية، أو أَتنبّأ بحدثٍ في المستقبل."[7]
      هكذا نفث الشاعر سعيد هادف في "مخطوطه" نفثات سمعيّةً حرّى، وبث فيه لواعج تتلوّى، متغنّياً برسائل شتى، تنتظم في عقدٍ شعريّ بديع، يُرسلها إلى القارئ علّه يتقاسمُها معه، فَيخِفُّ الثقل عن الشاعر، ويتنفس شيئاً من نسيم البوح التائق إلى صوت الحرّية والعيش الإنسانيّ الكريم... ويأتي هذا العمل في نطاق ما يفيد القيام بِرصدٍ أوّليّ لبعض الرسائل التي يتضمنها "مخطوط أكتو"، وذلك على الشكل الآتي:

أولاً: رسائل ذاتيّة
للذات نصيب مفروض من الشعر، ولا يمكن تصوّر شعر بمعزل عن الذات أبداً. وممّا يحقّق هذه الخاصية في شعر سعيد هادف تركيزه على وصف مصيره الضائع، وبلغةٍ مؤثّرة وتعابير أليمة، تذكّرُ القارئ بمصير الشاعر ابن الرومي (ت. 283هـ) القائل:
عَكسَت أَمريَ النّحوس فعنزي  = = =  أبداً حائلٌ... وتَيسي حلوبُ!
      وأيّ ضياعٍ أكبر من أن يخونك الأهلُ، والدّربُ، والسّاسةُ الجبناء. يقول سعيد هادفاً إلى تصوير مصيره غير السعيد:
"لا وقت في الوقت
ولا في المكان مكان
لقد خانني الأهلُ والساسةُ الجبناء
وخانني درْبِي
لأيِّ الجهات إذاً،
تصرّ خطاي على حمْل قلبي..."[8]
      وقد تمتزج الذات بالآخر الشبيه بالذات، فتنفجر مشاعر الغربة لدى الشاعر راسمةً مشهد انطفاء شرارة العُمر، مع ما ينتج عن ذلك من طمسٍ نهِمٍ لجذوة الأحلام وبياضها:
"من حدائق غربتنا
من وعْثاء هذا الرحيل الطويل
مضى العمر
(... )
تعبنا كثيراً
والزمان لم ينتبهْ
أن أيّامه السّود قد أَسرفتْ
في الْتهام أحلامنا."[9]
      أما حين يكون الشاعر سعيد هادف وحيداً، فإن الغربة الفردية تصبح محراب صلواته، فتعتصر قلبه، وتبثّ أوجاعه:
          "الغربة محرابي
          يُطهِّرني من حمئي المسنون
          متوحّداً أُعاقر صمتي
          أُزوِّجُ أوجاعي للتّرحال."[10]

ثانياً: رسائل إنسانيّة
ركز سعيد هادف في هذه المجموعة الشعرية على وصف محن الإنسان ومكابداته، سواء كان ذلك في وطنه الجزائر خاصة، أم كان في الوطن العربي عامة. غير أن هذا الوصف يحمل دلالات غير مباشِرة تتطلّع إلى تحسين أحوال المواطن الإنسانية والاجتماعية. يقول صاحب "مخطوط أكتو" في نص "تهمة":
"متهم أنت...
           متهم مع سبق الإصرار
      متهم بشهادة كل النبلاء الأخيار
(... )
متهم أنت...
           ودفاعك عن نفسك أن تكدح
... أن تحرث كالثور... ليل نهار."[11]
      هذه التهمة موفورة إذاً، ولا مفر منها إلاّ إليها. إنها مصير كل مواطن كادحٍ حرّ، وتهمةُ كل إنسان بريء. بل الأقسى من ذلك أن يتحول هذا الإنسان المواطن إلى كائن لا حول له ولا قوة، يعيش إمّعةً، ولا حق له حتى في اختيار ما يشتهيه من الخبز أو الخبر. يقول الشاعر:
"ودفاعك أن تبقى...
                      أذناً مترامية الأطراف
تسمع دون نقاش
ونمنحك النحنُ- كما نبغي- الخبز
ونمنحك- كما نبغي- الأخبار."[12]
هكذا يعيش الإنسان البريءُ مقصوصَ الجناح ومحروماً من أبسط أشكال العيش الكريم، بل أصبح محروماً حتى من حقه في الوجود، وما أبشعه من حرمان. يقول الشاعر في قصيدة "كوجيتو... ":
"يقول ديكارت:
أنا أفكر إذاً أنا موجود
(... )
يقول الجلاد:
أنا أعذّب إذاً أنا موجود
(... )
ماذا يقول المقهور...
وقد سَرق منه القهرُ وجودَه...؟"[13]
      ذلك مصير الإنسان المواطن. فما مصير الشعب بعد الذي اقترفه الأسياد؟ إنه شعب تائه لا يعرف الطريق، إنه شعب يشبه نهراً تائهاً يبحث عن مجراه. قال الشاعر:
"هكذا شعبي...
يقتحم صمت المتاه
مثل نهر منهمر... يتوق إلى مجراه."[14]
      ولكن على الرغم من هذا التيه والضياع، فلا بدّ من يوم عيدٍ سيجد فيه هذا الشعبُ النهرُ مجراه الطبيعي، طال الأمد أم قصر.
سِر فالطريق طويلة لكنها  = = =  تُفضي إلى عزٍّ وحُسنِ ختامِ

ثالثاً: رسائل جماليّة
إن "الصلة الجمالية حقيقة من حقائق الوجود البشري عامّة، تتبدّى ماهيتها ونتائجها في كيفية تعامل تنشأ بين البشر وعالمهم الطبيعي والاجتماعي... "[15]
      وقد عرف الشاعر سعيد هادف كيف يشكّل مواقفه في "مخطوطه" تشكيلا مبدعاً يتضمن رسائل جماليّة كثيرة منها توظيفُ التعابير اللغويّة الموحية، واستعمالُ الرموز الشعرية المكثّفة، وإبداعُ لغة شعرية ساحرة ومؤثّرة، واستيحاءُ بعض الأساطير البابلية والإغريقية، واستثمارُ جوانبَ من التراث الشعبي والأمازيغي. وسنتوقف فيما يأتي مع نموذج واحد من هذه الرسائل الجمالية وهو: 
1-         قصائد الإشارات، أو الومضات الشعرية: هي تلك القصائد المتميزة بالإيجاز المكثّف، وهي المسماةُ بِـ:(الهايكو) لدى اليابانيين، ويمكن تسميتها أيضاً بالقصائد القصيرة جدّاً، على غرار (القصص القصيرة جدا). وهذا النوع من القصائد في "مخطوط أُكتو" حاضر بشكل لافت، مع تميُّزها بدلالات قوية وعميقة تجعل القارئ يقف على حقيقة معاناة الشاعر وعذاباته، ويمثّل هذا النوعَ من الومضات الشعرية قصائدُ كثيرة مثل "العالم"، و"للوطن"، و"رأي"، و"بوح"، و"رغبة"، و"من أرشيف العذاب"، و"تاج"... ولتقريب هذا النوع من النصوص "الإشارات" إلى المتلقي نذكر هذين النموذجين. قال الشاعر سعيد هادف في قصيدة "رأي":
           مع أنك دبّابة
           فمن وجهة نظري الخاصّة
           ... أنت ذبابة."[16]
      ويقول في قصيدة "تاج":
"تاجك عرفٌ
إذاً... لك أُبّهة الدّيك."[17] 


[1] "معجم مصطلحات الدراسات الإنسانية والفنون الجميلة والتشكيلية"، أحمد زكي بدوي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط.1991:1م، ص:220. ينظر أيضاً "المعجم الوسيط"، جماعة من اللغويين، دار المعارف، القاهرة، ط.2: 1972م، ص: 244.   
[2] - المرجع والصفحة نفسهما.
[3] - النقس: الحبر.
[4] - أَردية: مفردها رداء، والمقصود برداء الشمس أو أرديتها نورها وحسنها.
[5] - "أحسن ما سمعت"، أبو منصور الثعالبي (ت. 429هـ)، وضع حواشيه: خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، لبنان، ط.1: 2000م، ص: 26.
[6] - من حوار: "الشاعر سعيد هادف في مساحة بوح مرهفة"، إنجاز: فاطمة بوبكري، ينظر موقع "وجدة سيتي".
[7] - "العقل واللغة والمجتعم: الفلسفة في العالم الواقعي"، جون سيرل، ترجمة: سعيد الغانمي، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط.1: 2006م، ص: 201.
[8] - "مخطوط أكتو"، سعيد هادف، مطابع الأنوار المغاربية، وجدة، ط.1: 2007، ص: 104.
[9] - نفسه، ص: 102.
[10] - نفسه، ص: 38.
[11] - "مخطوط أكتو"، ص: 13.
[12] - نفسه، ص: 13.
[13] - نفسه، ص: 18.
[14] - نفسه، ص: 39.
[15] - "مداخل إلى علم الجمال الأدبي"، عبد المنعم تليمة، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، ط.2: 1987م، ص: 30.
[16] - "مخطوط أكتو"، ص: 12.
[17] - نفسه، ص: 61.

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م