صرع الخيال
محمد العرجوني
تصطف الكلمات
وتخرج في زي كبريائها
متحدية قانون القلم.
يحركه الشاعر و هو في نوع من الغيبوبة
وسط غيوم فاقدة القدرة
على تحريك خلايا الشعر والإبداع،
المتاخمة في أقصى جدار الدماغ،
المبلط بالإسمنت
والأجور المستورد من أقصى العصور.
يحفر القلبَ المتعفن بالعاطفة
المنحدرة من أسفل الأزمنة الغابرة .
يتهجى ابن الرومي والمتنبي
أحرف الواخزات الإلكترونية …
هل يعلم الشاعر
ذاك المطل عبر شرفات السنين الخالدات
أن العصر لم يعد عاقلا كبحور التفعيلات
و لا متحمسا لدقات القلب وارتعاشاته الليلية
أمام أطلال ليلى وعمامة قيس،
بل لرنين حبات العرق
المتصبب من أعلى جبهات الشقاء
عند توليد الطاقة الشعرية
من عصارة كلمات عاشت من الصدإ
لمدة تزيد عن الأزل ؟
يهوي الشاعر المحارب في زمن الكتابة والكلام
عبر الضوء غير الهارب،
بسيفه اللامرئي على الكلمات
المصطفة في هدوء ونظام كتلاميذ،
مصطفين مثنى مثنى أمام الحجرات،
عله يبعثرها حسب قانون العشوائية
القادر على خلق الرعشة الشعرية
التي تفاجئ لاعبي الكلمات
غير المتقاطعة وغير المتجانسة …
تنفر من الكسلاء …
هي في حاجة إلى أياد رشيقة
ترقص على الأزرار .
هل من حاجة إلى متابعة النسيج الحرفي
على شاكلة المتنبي
أو حتى شوقي
أو آخر شاعر في زمن النفط ؟..
تتسلل
حروف الكلمات ثائرة .
تواجه الشاعر بشكل انفرادي … كم نحن ؟
وهل نحن عبيدا لك يا مستغل براءتنا؟
ويا
موزع الأدوار كما تدندن في مخيلتك؟
كان حرف السين
أول من قفز من أعلى عرشه المسن،
بسيفه المسلول من سماء مبرقة و مرعدة .
سرقه للبرق السماوي
السائل على أرض لا تعيش إلا بالسرقة .
قال بلهجة عنترية :
"
سيفي هذا
لا يمسه إلا من سئل لمدة ساعات طوال
عن سر دسته أياد سمراء
كانت للسماء سمكا …
فهل
لك من قدرة على فك هذا اللغز
المندس تحت عبقرية أسناني ؟ "
تلاه
اللام عاكفا ظهره من كثرة التطاول
حتى في الكلام،
و
كاشفا – بدون حياء – عن أسته :
"
لك أن تختار
أيها المعتنق لبيانات الحروف بدون اختيار،
والساكن في قلب التيارات المتضاربة
فوق شطآن فيروز الحروف المبللة
بشظايا النار …
لك
أن تختار يا من سولت له جنونه
اختيار الإبحار في قارب
مساميره كلها ثقب
وكل مجاديفه من أسنان المنشار …
قم ! ولا تتلعثم إن واجهتك الأقدار …
واحفر
بمخالبك قبرا أعمق من فكرة الإقبار؛
فصانعي الكلمات
بأحرف ثائرة مثلي لا يكلفهم أي عناء …
يصبحون سجناء بليتي
وحبيسي لحْدي الأزلي
المتلألئ سوادا عبر عصور
تمتد حتى قمة آخر شعرة
لازالت تطفو فوق رأس
أول مالك لسحر
الحرف المتدلي
من أعلى شرفات الزمان البالي …
احفره شبرا، شبرا …
وانتظر !.. انتظر حتى تبتلعك الأرض
حيا
في تابوت من قصائد من جليد النار …
فكيف
للشاعر أن يختار ؟
فقد حار أمام جنون حرفين …
شعر بسعال ينتابه بدون توقف
كمن سكنه سل كل الأزمان …
حرفان!
واحد يطرح لغزا
لا تحله – ربما – سوى الغربان،
حين تصبح بيضا تسقسق كالبلور،
والثاني يأمر بحفر قبر
أعمق
من العمق !
لازال الشاعر يسعل .
لعل
السين و اللام هما سبب السعال .
يتقدم
حرف الميم
يلملم أشعاره المبعثرة
عند أقدامه الحافية،
المرصعة بدبابيس من عدم :
"
لم تمت بعد
أيها الشاعر المسكون بأحرف من نار …
تائه فقط أنت
عبر مماليك ميتة منذ أن شاءت الأقدار
وكتبت الأشعار على ورق ظل الأشجار …
خذ عقدة من عقدي
واربط فرسك ذاك "البيكاز "
ولا
تحلق إلا وربطة عقدتي
من عنقك تتدلى …
وإياك أن تسقط!
ستموت شنقا بدون بسملة ولا حتى …
أنا
الناهي والمستفسر
كلما لاحت في الآفاق
بوادر الزمان اللامبالي
بحياة المجانين
من تجرعوا سم الحروف
المدوية عبر أعماق الأزمنة
المتتالية منذ الأزل …"
يتابع
الشاعر
خطابات الأحرف الثلاثة باندهاش
وانزعاج وبغبطة و سرور …
صحيح، قوتها لا تقهر …
وطاقاتها
هائلة …
هل
له أن يدير ظهر دماغه لهلوستها ؟
أم يلج عوالمها
ويتسكع عبر متاهات الحوار اللا إنسي ؟
تصطف الحروف كما ظهرت …
أي
حسب بروزها : س.ل.م.
تهدأ الحروف ويحيط بعالمها
صمت ربيعي تتخلله مويجات بحرية
ويطغى الأزرق على المكان .
هدوء تام .
صفاء
شاعري .
يستنشق
الشاعر راحة الأعضاء الجسدية
المترامية على رمال أنثوية
اللمس والهمس …
يلج جسد الشعر بحرارة العشق
ويهتك عرض البحر …
وفجأة
تتدلى الحاء من أعلى حافة .
حافية القدمين،
حاملة
خنجرا ذهبيا
يلمع من تحت أشعة شمس زحلية .
تطغى عليها شراسة جهنمية :
"
أنا الحاء،
بدوني لا حياة ولا حياء!
بداخلي حية تبلع كل الأحياء .
خذ من خنجري هذا شعاعا واصنع منه قلما …
تكتب به أشعارا من لهيب المرجان …
يكفي أن تعْدل عن نشوة الصمت
ورعشة الرمل
وتقبل لعنة الحرف
الحائر في أمرك.
تجدني في جميع الأنحاء .
أحلب الحلم والكوابيس الملحاحة .
تلك التي تزعج الإنسان في العالم الرحب …"
لا
زال الشاعر تائها
في عالم السلم .
ممتطيا هدوءه …
فإذا بالحاء تزعج سلامه
بحشرجات متشنجة
متتالية حبيسة البلعوم الصدئ.
لم يقف الإزعاج عند هذا الحد .
بل جرجرت الحاء راء تزعج حتى موتى القبر.
"
أنا الراء .
لا
احمل راية سلم .
بل رنين كل الكلمات النارية
المدوية من فوهة بركان أصم .
هدفي إحياء طنين الصدإ الموروث
عن كوارث الرعب …
إليك
الباء لتكتمل الصورة .
ظهرت
فعلا
بدون
أن تتعطل ولو ربع دقيقة.
وتبعتها دقات الطبل…
"
ها أنا الباء،
الآتية من أعماق الزمان البائد .
دقات الطبل تشهر قدومي .
وتقاس خطواتي بالضرب على ماء البحر .
أقطن بلاطا من حديد
تحميه نار من جليد…"
نشبت
الحرب .
وعمت الفوضى
وراح الشاعر يستنجد بالسلم
وباللمس
وبكل ما هو
أملس...
لينزلق،
ويحاول ثانية
وثالثة....
إلى أن سجل
بالحالة المدنية
تحت إسم:
سيزيف...الكلمات
النيئة....النائية...
--------------------------
كتب
هذا النص حوالي سنة 2004
1 commentaires:
تحياتي
إرسال تعليق
ملحوظة : التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل تعبر عن آراء أصحابها